في مشهد سياسي يمني معقّد، تتوارى خلف الشعارات البراقة معارك خفية تُدار بأدوات النفوذ والصراع على السلطة، حيث يتحول الخطاب السياسي للقوى الشمالية، سواء المؤيدة لجماعة الحوثي أو المنضوية تحت عباءة "الشرعية"، إلى واجهة تبريرية لمشروع سلطوي لا يكترث بمفاهيم الوطن أو مصلحة الشعب.
التقرير التحليلي، الذي أعدّه د. أمين العلياني، يستند إلى مقاربة متعددة الأبعاد، ويحاول تفكيك البنية الخطابية لقوى الشمال اليمني من خلال دراسة معمّقة للفجوة بين الشعارات المرفوعة والممارسات الواقعية، مع رصد أدوات الهيمنة واستراتيجيات التوظيف السياسي التي تتخذ من "الوطن" و"الشعب" واجهةً براقة تُخفي خلفها مشاريع متناقضة لا تتقاطع إلا في هدف مشترك: السيطرة على القرار ومصادر الثروة.
ثنائية الوطن والسلطة – خطابان متناقضان وهدف واحد
قال الكاتب إن الحوثيين يطرحون أنفسهم كمقاومة وطنية تقارع ما يسمونه "العدوان"، ويقدّمون مشروعهم السياسي كامتداد لتاريخ "ثوري" يستهدف تحرير البلاد من الهيمنة الإقليمية، في حين ترفع قوى الشمال في "الشرعية" راية استعادة الدولة ومواجهة الانقلاب.
وأضاف أن كلا الخطابين ينهاران عند أول اختبار واقعي، حيث تتكشّف الممارسات عن تنافس محموم على السلطة والمكاسب، يتجلى في صراعات النفوذ والهيمنة على الموارد والمناصب، مشيراً إلى أن المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين لا تشهد أي مشاريع تنموية فعلية، تمامًا كما تعاني المناطق المحررة من فساد إداري وتدهور اقتصادي وانهيار الخدمات.
شعارات متآكلة وتحالفات متناقضة
يرى د. العلياني أن التحالفات المتبدّلة تكشف زيف الخطاب السياسي لدى مختلف القوى. فقد تحالف حزب الإصلاح مع الحوثيين في مراحل معينة، قبل أن يتحول إلى رأس حربة ضدهم، فيما لم تتردد قوى الشرعية في التنسيق مع أطراف إقليمية مختلفة وفقاً لحسابات آنية ومصالح ضيقة.
وأشار الكاتب إلى أن هذه القوى تتناسى الجنوب كقضية عادلة، وتتعامل معه كمجرد ورقة تفاوضية، مشدداً على أن مشاريع تفريخ المكونات وتفتيت الهوية الجنوبية ليست إلا أدوات ضمن استراتيجية تكرّس الهيمنة وتعيق أي مسار نحو استعادة الدولة الجنوبية.
التوظيف المزدوج للدين والوطنية
قال العلياني إن الحوثيين يوظفون الخطاب الديني لتبرير سلطتهم المطلقة، متجاوزين كل مفاهيم التعددية والتداول السلمي، في حين تستغل قوى الشمال الشرعية شعار "الوحدة" لتبرير إقصاء الجنوب.
وأضاف أن الطرفين يستخدمان ذات الأسلوب: التخوين والتكفير وشيطنة الخصوم، مشيراً إلى أن كليهما يمارس الإقصاء السياسي والثقافي، ويُقصي الجنوب من التمثيل الفعلي في مؤسسات الدولة، رغم كل الشعارات الوطنية التي يرفعونها.
صراع مصالح تحت غطاء الوطنية
أوضح الكاتب أن الحرب اليمنية تُدار بمنطق المصالح لا المبادئ، حيث تتسابق الأطراف للسيطرة على موانئ النفط والغاز، والمساعدات الدولية، والمواقع الاستراتيجية، دون إيلاء أي اهتمام فعلي لمصالح المواطن أو تطوير البنية التحتية.
وأكد أن المعارك في مأرب والجوف لم تكن دفاعًا عن الوطن، بل صراعًا على العائدات، مشيرًا إلى أن الشعب يدفع ثمن هذه الحسابات السياسية الضيقة من قوته اليومي وكرامته.
الحاجة إلى مساءلة سياسية وكشف الأقنعة
قال د. أمين العلياني إن الوقت قد حان لتعرية الخطابات السياسية الزائفة، وكشف التناقض بين ما يُقال وما يُمارس على الأرض، مشددًا على أن المساءلة المجتمعية يجب أن تبدأ من إعادة تعريف مفهوم "الوطنية" وربطه بالشعب لا بالزعامات.
وأضاف أن البديل لا يكمن فقط في توجيه النقد، بل في تفعيل دور المجتمع المدني، وتوثيق اقتصاد الحرب، وكشف شبكات المصالح التي تتخفى وراء الشعارات.
ويرى د. العلياني أن أكبر خطر لا يكمن في وجود الحوثيين أو فشل الشرعية فحسب، بل في استمرار استخدام فكرة "الوطن" كغطاء لتمرير مشاريع سلطوية لا تعبأ بالناس ولا بمستقبل البلاد.
وأكد في ختام تقريره أن التفكيك الحقيقي للخطاب السياسي يبدأ من فضح الفجوة بين الشعارات والتنمية، وتحليل تحالفات المصالح، وفضح اقتصاد الحرب، داعيًا إلى بناء وعي مجتمعي مستقل يرفض أن يكون "الوطن" سلعةً تُباع في بازار السياسة.