في وقت تتكاثف فيه الضربات الدولية ضد جماعة الحوثي المدعومة من إيران، ويُفتح فيه مشهدٌ إقليميٌ غير مسبوق أمام القوى اليمنية لاستعادة المبادرة، تبدو الشرعية اليمنية وكأنها تتقنّع بالصمت، منسحبة من المشهد، وعاجزة عن مواكبة التحولات المتسارعة.
إنها لحظة نادرة توصف بـ"الفرصة التاريخية"، لكن مؤسسات الشرعية تُبددها في أروقة خلافاتها الداخلية، وعجزها عن الاجتماع أو توحيد الرؤية.
الإرياني يُحذّر من الفشل والفرصة تضيع
بلهجة تنذر بخطر داهم، وجه وزير الإعلام في الحكومة اليمنية معمر الإرياني، رسالة صريحة وصفها بـ"دعوة للنضال"، ناشد فيها القوى السياسية والقيادات اليمنية اصطفافًا شاملاً خلف مجلس القيادة الرئاسي، واعتبر أن العملية العسكرية التي تقودها الولايات المتحدة الأمريكية ضد الحوثيين ليست مجرد رد فعل عابر، بل تحرك استراتيجي عميق يستهدف تحجيم الجماعة وقطع أوصال مشروعها العابر للحدود.
غير أن الرسالة – رغم نبرتها الوطنية العالية – بدت كصرخة في وادٍ موحش. فالوزير ذاته يقر بأن لحظة نادرة تمر بها البلاد، بينما تغيب الشرعية الرسمية، لا عن الميدان فحسب، بل حتى عن طاولة النقاش والاجتماع، منذ أشهر طويلة.
شلل مؤسسي في لحظة تاريخية
تشير الوقائع إلى أن مجلس القيادة الرئاسي لم يعقد أي اجتماع منذ يناير الماضي، بينما ترجع آخر جلسة حكومية إلى نوفمبر من العام المنصرم.
هذا الجمود يتناقض كليًا مع تسارع المشهد السياسي والعسكري في اليمن والمنطقة، بدءًا من إعادة تصنيف الحوثيين جماعة إرهابية، إلى الضربات الأمريكية الجوية المستمرة منذ منتصف مارس، وما رافقها من تصريحات قوية صادرة عن البيت الأبيض، بشأن عزم واشنطن القضاء على التهديد الحوثي.
بدت الشرعية وكأنها تعيش موتًا سريريًا، فيما البلاد تمضي نحو مفترق طرق حاد: إما إعادة تشكل موازين القوى، أو تثبيت الوضع القائم، وتكريسه إلى ما لا نهاية.
صراعات القمة: العليمي وبن مبارك وجمر الخلافات المكتوم
يبدو أن الغياب المؤسسي للشرعية ليس وليد عجز تنظيمي أو ظروف استثنائية، بل هو نتيجة مباشرة لصراع سياسي يتعمّق بصمت بين رأسَي الشرعية، رئيس مجلس القيادة الرئاسي رشاد العليمي، ورئيس الحكومة أحمد عوض بن مبارك، خلافٌ لم يعد سراً داخل أروقة السلطة، بل بدأت أطراف من المكون الحاكم في الإفصاح عنه.
وفي واحدة من أكثر التصريحات وضوحًا، أكد القيادي في المجلس الانتقالي الجنوبي ناصر الخُبجي، أن الصراع بين العليمي وبن مبارك أدى إلى تعطيل مؤسسات الشرعية بشكل كامل، بل واتهم العليمي بإصدار قرارات فردية دون علم أو موافقة بقية أعضاء المجلس، مستشهدًا بتعيينات دبلوماسية جرت خارج إطار التوافق، كتعيين السفير لؤي الإرياني في برلين.
وتتحدث مصادر مطلعة عن محاولات يقودها العليمي لإزاحة بن مبارك من رئاسة الحكومة، مستندًا إلى ولاءات داخل الحكومة نفسها، ما يعرقل أي مسعى لعقد جلسات رسمية أو اتخاذ قرارات جماعية تتطلب التنسيق الكامل.
فرصة الإنعاش: هل تضيع مثل سابقتها؟
السؤال الحاسم الذي يطرحه المتابعون الآن هو: هل تكرر الشرعية اليمنية أخطاء الماضي، وتفشل مجددًا في اقتناص لحظة دولية نادرة لتحجيم الحوثيين؟ الإجابة للأسف لا تزال تميل نحو الإيجاب، إذ لا مؤشرات حقيقية على إعادة تنظيم الصفوف، أو بعث الحيوية في مؤسسات القرار، ولا حتى محاولات رأب الصدع بين أجنحة القيادة.
إن استمرار هذا الشلل، في وقت تفتح فيه عواصم القرار الإقليمي والدولي نافذة دعم واضحة ضد الحوثيين، يعني بكل بساطة أن الشرعية لم تتعلم من أخطائها، ولم تدرك بعد معنى أن تكون الدولة خارج لحظة القرار.
وفي الوقت الذي يُنتظر فيه من السلطة الحاكمة أن تحشد، تنسق، تعيد بناء خطابها ومشروعها، ينهمك قادتها في معارك خفية على المناصب والولاءات، ويتحول كل انتصار محتمل إلى ورقة تفاوض شخصي لا أكثر.
مأزق الشرعية بين الداخل والخارج
وما يعمق الأزمة أن الغياب لا يقتصر على الداخل، بل يمتد إلى الخارج أيضًا، حيث تقلص حضور الشرعية في المحافل الدولية، واقتصر دورها على التعليق أو إصدار بيانات تأييد للتحركات الأمريكية أو التصريحات الغربية، دون تقديم استراتيجية وطنية موازية، أو رؤية واضحة للتعامل مع الجماعة الحوثية في ضوء المتغيرات الأخيرة.
هذا الغياب جعل من التحرك الدولي، في نظر كثيرين، وكأنه يجري في فراغ سياسي محلي، وهو ما قد يدفع المجتمع الدولي لاحقًا للبحث عن قوى بديلة قادرة على تمثيل الواقع وصياغة تسوية لا تشمل – بالضرورة – قيادة الشرعية الحالية.
هل من صحوة قبل السقوط النهائي؟
في ضوء كل ما سبق، تبدو الشرعية اليمنية على مفترق طرق: إما أن تستفيق من سباتها وتتوحد خلف مشروع وطني يتفاعل مع التحولات العاصفة، أو أن تواصل الانقسام والعجز حتى تُطوى صفحتها تمامًا، فالشعوب لا تنتظر، والتاريخ لا يمنح الفرص مرتين، والوقت الذي يُهدر في المعارك الصغيرة يُكتب لصالح الخصوم.
ربما تكون دعوة الإرياني صادقة في جوهرها، لكن المطلوب اليوم ليس مجرد دعوات عاطفية، بل مبادرة قيادية شجاعة تُعيد لمؤسسات الدولة حضورها، وتضع مصلحة اليمن فوق الخلافات والمكاسب الذاتية، لأن الفرصة لا تزال قائمة، لكنها على وشك الانطفاء.