وسط ظروف اقتصادية خانقة وأوضاع معيشية متدهورة، تتكشف يومًا بعد يوم فصول جديدة من قصص الفساد المالي والإداري الذي ينخر جسد مؤسسات الدولة في اليمن.
أرقام مذهلة وممارسات صادمة كشف عنها الدكتور محمد جمال الشعيبي، أستاذ المالية العامة والاقتصاد السياسي بجامعة عدن، لتسلط الضوء على حجم العبث الذي يفاقم معاناة الناس، ويغرق البلاد أكثر في مستنقع الانهيار.
مليارات مهدرة على كهرباء لا تصل إلى المواطنين
بحسب الشعيبي، تتكبد الحكومة سنويًا أكثر من 600 مليون دولار على قطاع الكهرباء، الذي بالكاد يوفر تيارًا كهربائيًا متقطعًا لا يتجاوز ساعات معدودة يوميًا، مقابل تشغيل بالكاد يصل إلى ساعتين أو ثلاث في اليوم الواحد، تعيش المدن ساعات طويلة من الانطفاءات، تتجاوز أحيانًا 18 ساعة خلال 24 ساعة.
ورغم ضخامة الإنفاق، لم ينعكس ذلك على تحسين الخدمة، بل على العكس، تدهورت أوضاع الكهرباء بشكل كارثي، مع استمرار الهدر المالي بلا حسيب ولا رقيب.
مشاريع صيانة بمئات الملايين... والنتيجة صفر
ولم تقتصر مظاهر الفساد على تشغيل الكهرباء، بل امتدت إلى صيانة المنشآت النفطية، فقد أشار الشعيبي إلى إنفاق أكثر من 180 مليون دولار لصيانة مصافي عدن، التي كانت تعمل قبل بدء عمليات الصيانة، لكنها حتى اليوم لم تعد إلى الخدمة.
كذلك، تم تخصيص أكثر من 22 مليون دولار كمقدمة لاتفاق استقدام سفينة كهرباء عائمة، ضمن صفقة كان يفترض أن تتجاوز 100 مليون دولار، إلا أن المشروع لم يرَ النور، وضاعت الأموال في أروقة الفساد.
اختلاسات بالملايين تحت غطاء تطوير الخدمات
وتحدث الشعيبي عن فضيحة أخرى تمثلت في سحب نحو 14 مليون دولار من حساب العاصمة عدن بحجة تطوير قطاع الاتصالات الدولية.
وكُشف النقاب عن هذه الواقعة بفضل جهود محافظ عدن السابق عبد العزيز المفلحي، الذي فضح المتورطين، وعلى رأسهم أحد رؤساء الحكومات السابقين.
فساد مستمر في المنافذ الجمركية والقطاع النفطي
وأشار التقرير إلى أن الفساد لم يتوقف عند حدود الكهرباء أو الاتصالات، بل طال أيضًا الإيرادات الجمركية، فقد كشف عن وجود شبكة منظمة تسهّل دخول بضائع إلى البلاد باستخدام بيانات جمركية مزورة، مقابل دفع التجار مبالغ زهيدة لا تتجاوز 20 إلى 30% من القيمة الحقيقية، مع اقتسام الغنائم بين الفاسدين.
أما في قطاع النفط، فالخسائر تبدو أكثر فداحة، إذ يتم تهريب مئات آلاف البراميل من النفط الخام إلى الخارج، بعيدًا عن أي رقابة مالية أو محاسبية، منذ سنوات.
سفر ونثريات وهمية... ونهب المساعدات الدولية
ورصد الشعيبي هدرًا ماليًا آخر يتمثل في الإنفاق على رحلات وفود رسمية لحضور اجتماعات مع البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، تحت ذريعة استكمال شروط المنح والقروض، رغم أن البلاد لم تحصل فعليًا على أي دعم ملموس.
كما تحدث عن اختلاس أموال المساعدات الإنسانية والمنح الدولية، التي كان يفترض أن تترجم إلى مشاريع خدمية وتنموية، لكنها تبخرت ولم يلمس المواطنون أثرها على أرض الواقع.
شبكة غسيل أموال عابرة للحدود
أخطر ما كشفه الشعيبي هو تورط قوى متنفذة في تحويل الأموال المنهوبة إلى الخارج عبر قنوات الصيرفة وشبكات غسل الأموال، التي باتت تمثل خطرًا جسيمًا على الاقتصاد الوطني.
بين الواقع المؤلم والحلم المؤجل
ما كشف عنه الدكتور محمد جمال الشعيبي، هو غيض من فيض لما يجري في أروقة المؤسسات الحكومية، في بلد يكافح من أجل البقاء، ويواجه أزمات متفاقمة في كل القطاعات الحيوية.
ووسط هذا الظلام، لا تزال عدن، رغم الألم والخذلان، تتمسك بالحياة، وتحلم بمستقبل لا مكان فيه للفاسدين.. "عدن تستحق الحياة"... لكن الحياة لا تُهدى، بل تُنتزع من براثن الفساد والاستغلال.