في الوقت الذي يكافح فيه القطاع الصحي في اليمن من أجل البقاء وسط أزمات الحرب والانهيار الاقتصادي، تكشف وثيقة صادمة عن وجه آخر للأزمة: الفساد داخل المرافق الصحية نفسها، حين يتحول الألم إلى مورد مالي، ومعاناة الكادر الطبي إلى فرصة للنهب والسرقة.
وثيقة رسمية نشرها الدكتور زهير محسن، كشفت عن توجيه من وكيل نيابة الأموال العامة في محافظة الضالع إلى مدير شرطة المحافظة وقائد قوات الحزام الأمني، تطالب صراحة بـالقبض على المتهم عبدالرحمن محسن عبدالله المحرابي، مدير مستشفى الضالع المركزي (حكولة)، وذلك على ذمة قضية اختلاس مخصصات ومرتبات موظفي المحجر الصحي الخاص بمرض الكوليرا.
المال مقابل المرض.. الكوليرا تتحول إلى فرصة مالية!
الوثيقة، التي حصلت عليها "العين الثالثة"، تسلط الضوء على واحدة من أبشع صور الاستغلال: نهب مخصصات كوادر طبية تعمل في خطوط المواجهة الأولى ضد أوبئة قاتلة، في منشآت تفتقر لأبسط مقومات السلامة، وتحمل أرواح العاملين فيها على كف العبث.
تشير المعلومات الأولية إلى أن المتهم "المحرابي" متورط في اختلاس مبالغ مخصصة كمرتبات للعاملين في محجر الكوليرا، وهو مركز صحي أساسي تم إنشاؤه لمواجهة تفشي الوباء الذي اجتاح الضالع في أكثر من موجة خلال السنوات الماضية، ومع كل تلك المخاطر والضغوط، وجد العاملون أنفسهم محرومين من مستحقاتهم، في حين كانت الأموال تُصرف، لكنها لا تصل.
هروب في وضح النهار.. ونفي بلبوس الندوات!
ما يثير السخرية والمرارة، هو ما تداوله ناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي عقب صدور الوثيقة، إذ أشاروا إلى أن المتهم لم يُعتقل بعد، وأنه شوهد مؤخرًا في خور مكسر بالعاصمة عدن، بينما حاول مقربون منه الترويج لكونه مسافرًا في مهمة رسمية أو لحضور ندوة طبية في الرياض.
علق أحد النشطاء ساخرًا: "الرجال مش رايح يحضر مؤتمر طبي ولا طار عمره، الرجال في جولة البط، انتظروه هناك!"، في إشارة إلى تهرب المتهم من العدالة، وسط تواطؤ أو على الأقل تراخٍ في تنفيذ أوامر القبض الصادرة بحقه.
أين القانون؟ ومن يحمي الفساد؟
السؤال الأخطر في هذه القضية لا يتعلق فقط بالفعل الجرمي، بل بما بعده: لماذا لم يُنفذ أمر القبض حتى الآن؟ هل هناك حماية سياسية أو قبلية تُغطي على المتهم؟ ولماذا لم يصدر حتى الآن أي تعليق رسمي من إدارة مستشفى الضالع المركزي أو من مكتب الصحة في المحافظة؟
كل تلك التساؤلات تفتح الباب واسعًا أمام فرضيات مخيفة، تتعلق بوجود شبكة فساد محمية داخل المؤسسات الصحية، تجعل من المحاسبة أمرًا مستحيلًا ما لم يكن هناك تدخل مباشر من النيابة العامة وجهات الرقابة العليا.
من المسؤول عن حماية حقوق العاملين؟
في خضم هذا العبث، يبقى السؤال المؤلم: من يحمي الكادر الطبي البسيط؟ الأطباء والممرضون والعاملون في المرافق الصحية، الذين يعيشون على هامش الحياة، يخوضون معركة يومية مع الأوبئة، دون تأمين صحي، دون بيئة عمل آمنة، ودون رواتب منتظمة، ثم في النهاية، لا تصلهم حتى المخصصات الشحيحة التي تقررها المنظمات أو الجهات الحكومية!
لا يُعاقب السارق.. بل من يفضح السرقة
قضية "المحرابي" تذكرنا أن بعض من يُتهمون بالاختلاس، لا يتم محاسبتهم إلا إذا كُشف أمرهم في الإعلام أو تمت فضيحتهم بوثائق دامغة، أما قبل ذلك، فالأمر يظل طيّ الكتمان، وإن طالب الناس، فإن الرد يكون بالصمت أو بمزيد من البيانات المزخرفة التي لا تُطعم جائعًا ولا تُداوي مريضًا.
العدالة تبدأ من تنفيذ أمر القبض
المطلوب الآن ليس بيانات ولا وعودًا، بل تنفيذ أمر القبض فورًا، والتحقيق الجاد والمُعلن في القضية، مع ضمان حق الكادر الصحي في استعادة مستحقاته، ومساءلة كل من تواطأ أو تستر على هذا الفساد، فالعدالة ليست شعارات، بل أفعال تبدأ من احترام القانون وإنفاذه، وتستمر بمحاسبة من يعبث بحقوق الناس، خاصة حين يكون هؤلاء الناس في قلب المعاناة، يحملون سماعاتهم الطبية لا لسماع دقات القلب فقط، بل لسماع أنين نظام صحي يحتضر من الداخل.