بين جدران مستشفى النصر العام بمحافظة الضالع، لا تُروى حكايات الشفاء، بل تُروى قصص العبث، والفساد، والتلاعب العلني بأموال المرضى، في مشهد يُجسد انهيار القيم الإدارية، وغياب الحوكمة، وتفشي "اللامسؤولية" كمنهج عمل، تحت رعاية غطاء رسمي لم يعد يقنع حتى أبسط المواطنين.
"وثائق الحقيقة" تكشف المستور
تقرير رسمي صادر عن لجنة تقصي الحقائق التابعة لمحافظة الضالع، حصلت عليه "العين الثالثة"، يكشف بالصوت والصورة والمستندات، سلسلة من المخالفات الجسيمة التي تمارسها إدارة مستشفى النصر بقيادة مديره الحالي، الذي لا يزال حتى اللحظة على رأس عمله، رغم كل ما كُشف من اختلالات، ما يثير تساؤلات صادمة: لماذا لا يتحرك أحد؟ ومن يحمي هذا الفساد؟
الوثائق لا تتحدث عن تجاوزات طفيفة، بل تسلط الضوء على منظومة فساد متكاملة، تشمل العبث بالإيرادات، تضخيم قوائم الموظفين الوهميين، اختفاء دفاتر مالية، وتحصيلات بلا سندات رسمية، في ظل غياب تام لدور مكتب الصحة بالمحافظة، والجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة.
الفساد الممنهج: بين الأرقام والحقائق
بحسب التقرير، فإن نحو 70% من إيرادات "مساهمة المجتمع" في مستشفى النصر تُصرف شهريًا بطرق مشبوهة، وكثير منها بأسماء ومهام وهمية، مثل: "أجرة ضيافة الوزير"، "أجرة متابعة بعدن"، "نقل قرب دم"، وغيرها من البنود التي لا تخضع لأي تدقيق أو مراجعة، كما تُصرف أجور مضاعفة للأشخاص أنفسهم، تحت مسميات متعددة في الشهر الواحد، مثل أجرة تشغيل ماطور، أجرة حضور دورة، ثم حافز شهري ثابت، في نموذج فريد من ازدواجية الفساد الإداري والمالي.
وفي هذا السياق، علّق الدكتور زهير علي عبدالجليل، أستاذ الإدارة الصحية، لـ"العين الثالثة" بقوله: "ما يحدث في مستشفى النصر لا يمكن وصفه إلا بكونه عبثًا صحيًا وماليًا منظمًا، تتداخل فيه مظاهر الفساد مع غياب شبه كلي للحوكمة والرقابة، صرف الإيرادات دون سندات قانونية، وتضخم أعداد العاملين دون عقود، كل ذلك يكشف عن خلل مؤسسي عميق، لا يمكن تجاوزه إلا من خلال توقيف الإدارة الحالية، وفتح تحقيق شفاف تشرف عليه جهات قضائية ورقابية مستقلة."
وأشار الدكتور زهير إلى أن "استمرار هذه الممارسات دون تدخل حقيقي يعكس حالة تواطؤ أو لامبالاة، ويجب أن يُنظر إلى الأمر كجريمة تمس حياة المواطنين وحقهم في الرعاية الصحية، لا كخلاف إداري يمكن طيه".
فقدان الدفاتر: أموال تخرج دون أثر
أحد أكثر الجوانب خطورة هو فقدان أكثر من 90 دفتر سند لتحصيل رسوم المساهمة المجتمعية، وهي السجلات التي يفترض أن توثق أي مبلغ يدخل المستشفى، وفقًا للتقرير، طُبعت ثلاثة آلاف دفتر خلال العام 2024، إلا أن العشرات منها لم تُسجل إطلاقًا في السجلات الرسمية، مما يُشير إلى وجود مبالغ ضخمة تم تحصيلها نقدًا، دون أن تدخل إلى الحسابات أو الميزانيات.
تلاعب بالرسوم واستغلال للمرضى
لم يكن ذلك كل شيء، فقد وثقت لجنة تقصي الحقائق أن رسوم بعض الخدمات الطبية، مثل العناية المركزة، تُحصّل من المرضى بقيمة 20 ألف ريال، بينما القيمة الرسمية لا تتعدى 10 آلاف، هذا يعني أن المريض يدفع ضعفي التكلفة الفعلية دون معرفة أو توثيق، ولا يجد من يحاسِب أو يراقب.
حوافز وهمية.. ونظافة مأجورة
ورغم أن هناك موازنة تشغيلية مخصصة للنظافة في المستشفى، إلا أن إدارة المستشفى تستمر في صرف حوافز إضافية لعمال النظافة من "إيرادات المجتمع"، ما يعني أن بندًا واحدًا يُصرف عليه مرتين، في خرق صريح للأنظمة المالية والإدارية.
إدارة فاشلة أم تواطؤ رسمي؟
الأدهى من كل ذلك، أن الجهات الرسمية في المحافظة، وعلى رأسها المحافظ ومكتب الصحة، لم تحرك ساكنًا تجاه هذه الكارثة، ما يطرح فرضيتين: إما فشل ذريع في الإدارة والرقابة، أو تواطؤ صامت مع شبكة الفساد، وكلا الخيارين كارثي.
في الوقت الذي تتعالى فيه المطالب الشعبية بإقالة مدير المستشفى وإحالته إلى نيابة الأموال العامة، يبدو أن هناك جهات تقف سدًا منيعًا ضد أي محاولة للمساءلة، مما يضرب بعرض الحائط كل مفاهيم الشفافية والمحاسبة.
المواطنون: نريد تحقيقًا قضائيًا.. لا تمثيليات شكلية
على لسان كثير من أبناء الضالع، فإنهم لا يثقون في لجان إدارية شكلية، بل يريدون تدخلًا من النيابة العامة وفتح تحقيق قضائي شفاف، يُحاسب فيه كل من تثبت مسؤوليته عن هدر المال العام أو التلاعب بحقوق المواطنين الصحية.
وقال أحد النشطاء المحليين: "لو كانت لدينا شبكة صرف صحي بحجم شبكة الفساد في مستشفى النصر، لكنا الآن في وضع صحي متقدم، لكن للأسف، نُسرق في وضح النهار، وتُحلب مؤسساتنا من الداخل، والناس تموت بلا دواء أو رعاية".
مستشفى النصر.. مرآة لواقع مهترئ
قضية مستشفى النصر في الضالع ليست مجرد حادثة فساد إداري، بل هي مرآة تعكس واقعًا مأزومًا، تنهار فيه المؤسسات العامة تحت وطأة الاستغلال والمحسوبية، دون رقابة فعلية أو إرادة إصلاح، ويبقى السؤال الحتمي معلقًا: من يوقف هذا النزيف؟ ومن يعيد الثقة إلى مؤسسات يُفترض أن تكون في خدمة الناس لا على حسابهم؟