في سياق بالغ التعقيد يعيشه الجنوب عامة ومحافظة حضرموت على وجه الخصوص، خرج القيادي الجنوبي وعضو هيئة رئاسة المجلس الانتقالي الجنوبي، عمرو البيض، بتصريحات حادة ومباشرة أعادت الجدل حول ما يُعرف بـ"المشروع الحضرمي"، وفتحت الباب على مصراعيه لقراءة معمّقة لأزمة التمثيل السياسي، والتنازع على هوية حضرموت، وحدود مشروعها في إطار الجنوب الاتحادي.
البيض، وفي سلسلة تغريدات على منصة "إكس"، لم يكتفِ بنقد شكل المشروع بل دخل إلى عمقه، ليُظهر ما اعتبره "مفارقات صارخة" و"تناقضات جوهرية" بين الشعارات المطروحة والممارسات الواقعية، في محاولة لفهم ما سماه بـ"مشروع اللامشروع"، الذي – بحسب وصفه – لا يقدم رؤية واضحة بقدر ما يعمل على إقصاء الآخرين وفرض تمثيل أحادي النبرة باسم حضرموت.
بين غموض الطرح وهيمنة الصوت الواحد
في مستهل حديثه، عبّر البيض عن صعوبة فهم ما يُطلق عليه "المشروع الحضرمي"، معتبرًا أن الشعارات المرفوعة باسم هذا المشروع تتسم بالتعميم والغموض، ولا تعكس وضوحًا في الرؤية السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية لحضرموت.
وقال إن المكونات التي تدعي تمثيل هذا المشروع – في إشارة إلى "مؤتمر حضرموت الجامع" وبعض الكيانات القبلية – تطرح خطابًا يقوم على "رفض هيمنة الآخرين"، دون أن تحدد من هم "الآخرون" تحديدًا، أو ما هو البديل الحقيقي الذي يُفترض تقديمه.
واستدرك البيض بالقول إن "رفض الهيمنة" هو موقف مبدئي ومشروع لأي مكوّن أو منطقة تسعى لصون قرارها وسيادتها، لكنه استدرك أن "الخطير هو حين يتحول هذا الشعار إلى غطاء لممارسة هيمنة داخلية أخرى"، حيث يتم فرض أشخاص أو جهات للتحدث باسم حضرموت دون وجود توافق حقيقي على تمثيلهم أو قبولهم الشعبي.
من "حضرموت أولاً" إلى "حضرموت فقط"؟
واحدة من أكثر الملاحظات الحادة التي أشار إليها البيض، هي ما وصفه بـ"الاستخدام السياسي الانتقائي لشعار حضرموت"، موضحًا أن البعض يستخدم هذا الشعار كأداة لنفي الآخر ونزع شرعيته، وليس كمنصة لبناء مشروع جامع.
وتساءل البيض: "إذا كانت حضرموت ليست تابعة لأي مشروع، فهل يعني ذلك أنها تُدار بمفهوم العزلة أو الانكفاء؟ وهل يتسق هذا مع الاعتراف المسبق بتعدد المشاريع داخلها؟".
وحذّر من أن هذا النوع من الخطابات يسير باتجاه صناعة "حالة انفصال داخلي" داخل حضرموت ذاتها، قبل أي حديث عن وضعها ضمن الجنوب أو اليمن إذ يتحول خطاب "حضرموت ليست تابعة لأحد" إلى شكل من أشكال الإنكار الذاتي لأي توافق داخلي، ويكرّس ما سماه "الهيمنة الداخلية باسم الخصوصية".
المشروع الوطني الجنوبي... ليس دخيلاً بل جذرياً
وفي هذا الإطار، دافع البيض بوضوح عن المشروع الوطني الجنوبي، قائلاً إنه "ليس دخيلاً على حضرموت كما يزعم البعض، بل هو مشروع أصيل ومتجذر فيها، ويحظى بقبول واسع"، مضيفًا أن هذا المشروع لا يهدف إلى الهيمنة أو الإقصاء، بل إلى بناء شراكة سياسية شاملة بين كافة محافظات الجنوب – بما فيها حضرموت – على أسس العدالة والندية وتوزيع السلطة والثروة.
واستعرض البيض المسارات التي خطاها المجلس الانتقالي لتجنيب الجنوب الوقوع في شرك المركزية القديمة، والتوجه نحو نموذج سياسي لا يعيد إنتاج التجربة المؤلمة لما قبل 1990م، مشددًا على أن المجلس لا يدعي الكمال، لكنه يمثل المشروع الأكثر وضوحًا وتنظيمًا وتعبيرًا عن تطلعات الجنوبيين.
دعوة لتسمية الأشياء بمسمياتها: هل هناك مشروع بديل؟
وفي ختام طرحه، وجه البيض تساؤلاً مفتوحًا لمن يهاجمون المشروع الجنوبي قائلاً: "إذا كان لديكم مشروع آخر، فلتقدّموه إلى الشعب بوضوح, أما أن يُختزل كل النقاش في الطعن والتشكيك دون تقديم بدائل، فهذا لا يصنع مشروعًا، بل يصنع فراغًا يخدم أعداء الجميع".
وأكد أن أي ملاحظات على أداء المجلس الانتقالي الجنوبي أو قيادته لا ينبغي أن تُستخدم كذريعة لتقويض المشروع الجنوبي نفسه، مذكرًا أن المجلس ليس غاية، بل وسيلة، وأن المشروع الوطني الجنوبي أوسع من أي تنظيم أو شخص.
ما يطرحه البيض لا يهدف إلى كبح تطلعات حضرموت، بل إلى حمايتها من الوقوع في فخ "التمثيل القسري" الذي قد يقودها إلى عزلة قاتلة عن محيطها الطبيعي في الجنوب، ويدفع بها إلى صراعات داخلية أعمق من تلك التي تحاول الخروج منها.
إن دعوته لإعادة تعريف المشروع الحضرمي، وإخضاعه لنقاش مفتوح، لا تستهدف المصادرة بل التمكين، ولا تسعى للتفوق بل للمشاركة، وبين خطاب الرفض والاتهام، يقدّم البيض رؤية للاندماج الطوعي في مشروع جنوبي جامع، لا ينتقص من حضرموت بل يحتضنها كشريك لا كتابع، وكقائد لا كمُلحق، وبين "المشروع الوطني" و"مشروع اللامشروع"، يضع الجنوبيون – اليوم – أنفسهم أمام سؤال مصيري: هل نعيد إنتاج الهيمنة بصيغة جديدة؟ أم نبني الجنوب التعددي على أساس الشراكة والندية؟