في ظل التحولات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي يمر بها الجنوب العربي، بات التعليم الجامعي يواجه أزمة معقدة متعددة الأبعاد، تتجاوز حدود الكليات والجامعات لتصل إلى عمق البنية المجتمعية.
في مقابلة مطولة مع الدكتور نصر السقاف، عميد كلية الهندسة بجامعة العلوم والتكنولوجيا، استعرضت "العين الثالثة" جذور هذه الأزمة وتأثيراتها وآفاق الحلول الممكنة.
واقع التعليم الجامعي: الأرقام تتحدث عن التحديات
استهل الدكتور السقاف حديثه لـ"العين الثالثة" بالإشارة إلى أن عدد الطلاب الملتحقين بكلية الهندسة في تزايد ملحوظ، خاصة في التخصصات التقنية الحديثة مثل الأمن السيبراني والذكاء الاصطناعي، هذه التخصصات أُضيفت حديثًا استجابة للطلب المتزايد في سوق العمل، ومع ذلك، أكد أن هذا الإقبال يخفي وراءه تحديات عميقة تعكس الواقع الصعب الذي تعيشه شريحة كبيرة من الشباب.
وأشار إلى أن العديد من الطلاب، خاصة في المناطق الريفية والنائية، يواجهون صعوبة في الالتحاق بالجامعات بسبب ارتفاع تكاليف الدراسة والمعيشة. وقال: "على الرغم من أهمية التعليم الجامعي، إلا أن الظروف الحالية تجعل منه خيارًا صعب المنال لكثير من الشباب."
التعليم العالي والأزمة الاقتصادية: تأثير مباشر
من أبرز القضايا التي تناولها الدكتور السقاف كانت العلاقة بين الوضع الاقتصادي المتدهور وعزوف الطلاب عن التعليم الجامعي، وأوضح أن الحرب المستمرة منذ سنوات دمرت الاقتصاد المحلي وأثرت بشكل مباشر على دخل الأسر، مما جعل تكاليف التعليم عبئًا لا يمكن تحمله للكثيرين.
وأضاف: "نحن نتحدث عن أسر بالكاد تستطيع توفير احتياجاتها الأساسية، فكيف يمكنها تغطية تكاليف التعليم؟" وأشار إلى أن هذا الوضع دفع العديد من الطلاب إلى ترك الدراسة والبحث عن فرص عمل مبكرة، رغم أنها غالبًا ما تكون غير مستقرة أو غير كافية لتلبية طموحاتهم.
البطالة والتخصصات غير المناسبة: دائرة مفرغة
ناقش الدكتور السقاف أيضًا تأثير ارتفاع معدلات البطالة على دافعية الطلاب لمتابعة التعليم العالي.
وأكد أن غياب فرص العمل المناسبة بعد التخرج جعل الكثيرين يتساءلون عن جدوى استثمار سنوات من الدراسة والجهد دون ضمان الحصول على وظيفة.
وأوضح أن المشكلة ليست فقط في قلة الوظائف، بل في عدم توافق التخصصات الجامعية مع احتياجات السوق.
وقال: "العديد من التخصصات الجامعية ما زالت تعتمد على مناهج تقليدية لا تواكب التطورات الحديثة، مما يجعل الخريجين غير مؤهلين بشكل كافٍ لتلبية متطلبات السوق."
التخصصات الحديثة: بارقة أمل وسط الأزمات
في ظل هذه التحديات، أشار الدكتور السقاف إلى أن بعض التخصصات الحديثة مثل الأمن السيبراني والذكاء الاصطناعي قد أثبتت أنها استجابة ضرورية للتحولات العالمية.
وأكد أن هذه المجالات توفر فرصًا واسعة للشباب، ليس فقط محليًا بل على المستوى الإقليمي والدولي.
وأضاف: "عندما نفتح آفاقًا جديدة أمام الطلاب من خلال التخصصات الحديثة، فإننا لا نوفر لهم فقط فرصة للتعلم، بل نبني أيضًا جسرًا نحو مستقبل أفضل."
دور الجامعات في مواجهة التحديات
وحول دور الجامعات في مواجهة هذه التحديات، شدد الدكتور السقاف على أهمية تحديث المناهج الدراسية باستمرار لتواكب احتياجات السوق.
وأكد أن الجامعات يجب أن تكون أكثر مرونة في سياساتها وأن تسعى لتعزيز شراكاتها مع المؤسسات المحلية والدولية لفتح آفاق أوسع للخريجين.
كما دعا إلى تحسين البنية التحتية للجامعات وتهيئة بيئة تعليمية محفزة، مشيرًا إلى أن الظروف الحالية، بما فيها نقص الموارد والتجهيزات، تؤثر سلبًا على جودة التعليم.
توصيات لتحقيق تحول جذري
اختتمت "العين الثالثة" بتقديم مجموعة من التوصيات التي ترى أنها ضرورية لتحقيق تحول جذري في التعليم الجامعي:
-
إنشاء صندوق دعم التعليم: لتوفير منح دراسية ومساعدات مالية للطلاب المحتاجين.
-
تعزيز الشراكات مع القطاع الخاص: لخلق فرص تدريبية وتوظيفية حقيقية.
-
تطوير المناهج الدراسية: لتشمل المهارات العملية والتخصصات الحديثة المطلوبة في السوق.
-
إطلاق برامج توعية مجتمعية: لتسليط الضوء على أهمية التعليم العالي ودوره في بناء المستقبل.
-
إقامة مراكز استشارات مهنية: لمساعدة الطلاب على اختيار التخصصات المناسبة بناءً على قدراتهم واهتماماتهم واحتياجات السوق.
التعليم: مفتاح التغيير رغم التحديات
رغم الصعوبات الهائلة، يرى الدكتور السقاف أن التعليم الجامعي يظل مفتاحًا للتغيير وبناء مستقبل أفضل. وقال: "على الرغم من كل شيء، يبقى الأمل معقودًا على جهود مشتركة من الحكومة، والجامعات، والمجتمع المدني لدعم الشباب وتحقيق تطلعاتهم."
تقدم هذه المقابلة مع الدكتور نصر السقاف صورة شاملة للأزمات التي تواجه التعليم الجامعي في الجنوب العربي، لكنها تبرز أيضًا إمكانيات الحلول وفرص التغيير، ويبقى الرهان الأكبر على إرادة الجميع للعمل معًا لتحقيق تحول حقيقي يعيد للتعليم مكانته كرافعة للتنمية وبوابة لمستقبل أفضل.