في خطوة غير مسبوقة، بث الإعلام الرسمي مساء أمس تفاصيل مثيرة عن قضايا فساد مالي واسعة النطاق، طالت مؤسسات حكومية عديدة وأدت إلى خسائر قدرت بمئات الملايين من الدولارات.
تأتي هذه التقارير بناءً على تحقيقات الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة، مسلطة الضوء على بنية الفساد التي ترسخت في مفاصل مؤسسات الدولة، حيث أصبح الفساد أقرب إلى ممارسة يومية داخل مؤسسات الشرعية منذ عام 2015.
استجابة فاترة من الشارع
على الرغم من ضخامة ما أُعلن عنه، فإن ردود الفعل على وسائل التواصل الاجتماعي أظهرت عدم دهشة اليمنيين، حيث اعتبر كثيرون أن هذه الفضائح ليست جديدة بل متوقعة، وذهب البعض إلى القول إن ما تم الكشف عنه يمثل فقط "رأس جبل الجليد" في بحر من الفساد الذي أغرق مؤسسات الدولة خلال سنوات الحرب.
لكن المثير للاهتمام هو أن ردود الفعل لم تنصب فقط على حجم الفساد، بل ركزت أيضًا على توقيت الكشف عن هذه القضايا، وطبيعة الجهات التي جرى استهدافها.
وتساءل كثيرون عن السبب وراء انتقاء مؤسسات معينة دون غيرها، وهل تأتي هذه الخطوة ضمن حملة شاملة أم أنها مجرد تصفية حسابات سياسية بين أطراف داخل منظومة الشرعية نفسها؟
الفساد المنتقى
من بين القضايا التي كشف عنها، كانت هناك تقارير حول مليارات الريالات التي تم اختلاسها من قبل مسؤولين في مواقع حساسة، مع وعود باتخاذ إجراءات قانونية بحقهم، ومع ذلك، لم يتطرق الإعلان إلى قضايا أخرى تتعلق بمؤسسات وشخصيات لا تزال في مواقع السلطة.
أبرز الانتقادات ركزت على التناقض في التعامل مع ملفات فساد مشابهة، على سبيل المثال، هناك تساؤلات كبيرة حول مصير الإيرادات النفطية والغازية لمحافظة مأرب، التي ترفض حتى اليوم توريد عائداتها إلى البنك المركزي في عدن، رغم التزام جميع المحافظات الأخرى بذلك، كما تعرضت شركة بترومسيلة لاتهامات مماثلة برفض الإفصاح عن تقاريرها المالية، بينما لم يتم فتح ملف شركة صافر في مأرب، التي تواجه اتهامات مشابهة.
ابتزاز سياسي أم استجابة لضغوط خارجية؟
الجدل حول هذه القضايا لم يقتصر على المحتوى، بل امتد إلى نوايا الجهات التي بادرت بالكشف عنها، يرى البعض أن نشر هذه القضايا قد يكون محاولة لابتزاز شخصيات سياسية بعينها أو تصفية حسابات داخل مجلس القيادة الرئاسي، في حين يرى آخرون أن الخطوة جاءت نتيجة ضغوط دولية، خاصة من المملكة العربية السعودية والمؤسسات المالية العالمية، التي تطالب الحكومة اليمنية بإصلاحات مالية وإدارية شاملة.
غياب خطة واضحة لمكافحة الفساد
رغم أهمية الحديث عن مكافحة الفساد، فإن غياب رؤية واضحة لمعالجة هذه القضايا يجعل الخطوة تبدو أقرب إلى محاولة لتهدئة الرأي العام أو تلبية مطالب خارجية، بدلاً من كونها جزءًا من مشروع وطني حقيقي.
المشكلة الأكبر ليست في الفساد الذي وقع خلال السنوات الماضية فحسب، بل في استمراره حتى اليوم، الفساد في المناطق المحررة لم يعد يقتصر على اختلاس الأموال، بل أصبح جزءًا من النظام الإداري، حيث ترفض العديد من المؤسسات والجهات الحكومية الالتزام بالقوانين المالية، مثل توريد الإيرادات إلى البنك المركزي أو إغلاق الحسابات في البنوك التجارية.
خطوات ضرورية نحو الإصلاح
لتحقيق مكافحة حقيقية للفساد، هناك خطوات جذرية لا يمكن تجاوزها:
1. إعادة تنظيم الإيرادات والنفقات: يجب أن تُلزم الحكومة بإعداد موازنة سنوية شفافة، تُظهر حجم الإيرادات والنفقات، وتخضع للتدقيق والمساءلة.
2. إغلاق الحسابات التجارية: لا بد من إلزام جميع المؤسسات الحكومية بإغلاق حساباتها في البنوك التجارية، وتوريد جميع الإيرادات إلى البنك المركزي، كخطوة أساسية لتحقيق الشفافية المالية.
3. توحيد الرقابة والمحاسبة: يجب تفعيل الأجهزة الرقابية، مثل الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة، ومنحها صلاحيات مستقلة للتحقيق في جميع المؤسسات دون استثناء.
4. إصلاح هيكلي في مؤسسات الدولة: يتطلب الوضع الراهن مراجعة شاملة للقيادات الإدارية في مؤسسات الدولة، مع إقالة المسؤولين الفاسدين، وإحالتهم إلى القضاء، وتعيين كوادر مؤهلة مشهود لها بالكفاءة والنزاهة.
5. تعزيز دور القضاء: يجب تفعيل دور القضاء المستقل في محاسبة المتورطين في قضايا الفساد، دون تدخل سياسي أو محاباة.
المخاطر المترتبة على غياب الإصلاح
بدون هذه الخطوات، فإن مكافحة الفساد ستبقى مجرد شعار إعلامي، عاجزة عن معالجة جذور المشكلة، استمرار الفساد المالي والإداري سيؤدي إلى مزيد من الانهيار في مؤسسات الدولة، ما يضع البلاد أمام مخاطر اقتصادية واجتماعية أكبر.
إن الحديث عن مكافحة الفساد يحتاج إلى إرادة سياسية حقيقية، تتجاوز المناكفات والابتزاز السياسي إلى خطوات جادة لإصلاح شامل. الوقت قد حان لتضع الحكومة خططًا مدروسة لمواجهة الفساد المستمر وإصلاح المنظومة الإدارية والمالية. بدون ذلك، فإن أي جهود تُبذل الآن لن تكون أكثر من محاولة ترقيع لوضع متدهور، ينذر بانهيار شامل لا يمكن السيطرة عليه.