في حادثة غير مسبوقة هزت مدينة سيئون بمحافظة حضرموت، لقي ضابط سعودي وضابط صف مصرعهما، وأصيب ثالث بجروح، داخل مقر المنطقة العسكرية الأولى، التي تتواجد في المدينة ضمن إطار قوات التحالف العربي بقيادة السعودية.
وقد أثارت الحادثة الكثير من التساؤلات حول خلفياتها ودلالاتها على المستويين الأمني والسياسي، وفتحت الباب واسعًا أمام الحديث عن إعادة النظر في السياسة السعودية تجاه محافظة حضرموت، تلك المحافظة ذات الأهمية الاستراتيجية في جنوب اليمن.
تفاصيل الحادثة وتداعياتها الأولية
في مساء يوم الجمعة الماضية، استهدفت عملية اغتيال غادرة مقر المنطقة العسكرية الأولى في سيئون، مما أسفر عن مقتل ضابط سعودي من القوات المسلحة السعودية وضابط صف، إضافة إلى إصابة ضابط آخر بجروح، وقد وصف العميد الركن تركي المالكي، المتحدث باسم تحالف دعم الشرعية في اليمن، الحادثة بـ"الغادرة والجبانة"، مؤكدًا أن الحادث لا يعكس موقف الشرفاء من أفراد وزارة الدفاع اليمنية.
وفي خطوة عاجلة، وصل وزير الدفاع اليمني الفريق الركن محسن الداعري إلى مدينة سيئون للإشراف شخصيًا على التحقيقات وتحركات الأجهزة الأمنية في المدينة. وقد استنفرت القوات الأمنية وعناصر المنطقة العسكرية الأولى بشكل غير مسبوق في محاولة للقبض على المتهم، الذي تبين أنه يدعى محمد صالح العروسي، جندي في اللواء 135 مشاة التابع للمنطقة العسكرية الأولى.
ورغم الإعلان عن مكافأة قدرها 30 مليون ريال يمني (نحو 15 ألف دولار) لمن يدلي بمعلومات تقود إلى القبض على المتهم، ظل هذا الأخير فارًا من العدالة لأيام طويلة بعد ارتكابه الجريمة، مما أثار العديد من الأسئلة حول كيفية تمكنه من الهروب من منطقة عسكرية مشددة الحراسة، وأثار تساؤلات حول دور قيادة المنطقة العسكرية الأولى في الحادث.
تساؤلات حول الرواية الرسمية للحادثة
في البداية، حاولت الرواية الرسمية أن تقدم الحادثة على أنها نتيجة مشادة كلامية بين القاتل وعدد من الضباط السعوديين، لكن التطورات التي تلت الحادثة تعكس شيئًا مغايرًا، فالرواية الرسمية لم تفسر كيف تمكن القاتل من الفرار بسهولة من داخل منطقة عسكرية تشهد وجود عدد كبير من الجنود والأفراد الأمنيين، وهو أمر يدعو للتشكك في احتمال وجود تخطيط مسبق للعملية.
إن تمكُّن الجاني من الاختفاء لمدة أيام كاملة في المدينة، في حين كانت قوات الأمن والعسكرية تكثف جهودها للبحث عنه، يعكس فشلًا واضحًا في العمليات الأمنية، مما يثير تساؤلات حول ما إذا كانت هناك جهات داعمة للجاني أو ربما تسهيلات أمنية أسهمت في فراره.
الارتباطات السياسية والتداعيات الإقليمية
ما يثير القلق بشكل أكبر هو ردود الفعل من قبل جماعة الحوثي، التي أظهرت إشادة غير متوقعة بمنفذ العملية، حيث أبدت قيادات حوثية إشادات بالعملية، وهو ما يفتح الباب أمام تساؤلات جدية حول ما إذا كان هناك أي ارتباط بين الحادثة والحوثيين، علاوة على ذلك، يشير بعض المراقبين إلى أن هناك ضغوطًا سياسية تدفع باتجاه تنفيذ عمليات تهدف إلى تأزيم الوضع في حضرموت، بما يتماشى مع مصالح هذه الجماعة في إرباك الوضع الأمني في المناطق المحررة.
من جانب آخر، تظهر شكوك مستمرة تجاه دور قيادة المنطقة العسكرية الأولى، التي تتهمها بعض الأطراف الجنوبية، وخاصة المجلس الانتقالي الجنوبي، بأنها متواطئة أو على الأقل متساهلة في السماح بعمليات تهريب الأسلحة عبر الأراضي اليمنية، سواء من سلطنة عمان أو من السواحل الجنوبية للمهرة، وصولًا إلى الحوثيين، وتُطرح تساؤلات حول كيفية استجابة هذه القوات للتهديدات الحوثية في الشمال، خصوصًا مع وجود بعض القادة العسكريين المنتمين إلى المناطق الشمالية التي تخضع لسيطرة الحوثيين.
الشكوك الجنوبية ورفض استبدال المنطقة العسكرية الأولى
في الواقع، ليس الموقف من المنطقة العسكرية الأولى محصورًا فقط في التصعيد العسكري، بل يمتد إلى قضايا سياسية معقدة تحكمها المصالح الإقليمية، فمنذ بداية الحرب في 2015م، شكلت قوات المنطقة العسكرية الأولى محل جدل في أوساط القوى الجنوبية، فالمطالبة المستمرة من قبل المجلس الانتقالي الجنوبي وأبناء حضرموت باستبدال هذه القوات بقوات محلية من أبناء المحافظة، والتي يُفترض أن تكون أكثر إلمامًا بالأرض والواقع المحلي، قوبلت دومًا برفض سعودي.
في هذا السياق، يكشف حديث محافظ حضرموت مبخوت بن ماضي في لقاء تلفزيوني العام الماضي عن حجم الاستياء من استمرار بقاء قوات المنطقة الأولى في حضرموت، حيث تساءل بن ماضي عن سبب عدم سحب هذه القوات لتحارب الحوثيين في المناطق الشمالية من اليمن، واستبدالها بقوات النخبة الحضرمية التي يتمتع أفرادها بارتباط قوي بالأرض والناس.
هذا المطلب لا يعكس فقط التحديات الأمنية، بل يعكس أيضًا أبعادًا سياسية تتعلق بمستقبل العلاقة بين الرياض والمجلس الانتقالي الجنوبي، فبينما ترى الرياض أن وجود قوات المنطقة الأولى يعد عامل استقرار في مواجهة تنامي نفوذ الحوثيين في الشمال، يرى أبناء حضرموت أن هذه القوات تشكل عبئًا أمنيًا ولا تملك القدرة على التصدي للتحديات المتزايدة في المنطقة.
وعود سعودية وتضارب في التنفيذ
على الرغم من الوعود التي قدمتها الرياض للمجلس الانتقالي الجنوبي بعد تشكيل مجلس القيادة الرئاسي في 2022م، بتغيير قوات المنطقة الأولى وتوظيف قوات درع الوطن ضمن قوات حضرموت، إلا أن الواقع على الأرض لم يشهد أي تطور ملموس، حيث اكتفت السعودية بتسليم منفذ الوديعة الحدودي لقوات درع الوطن دون تنفيذ وعودها الأخرى بشأن إعادة تموضع القوات، مما أثار حالة من الإحباط في صفوف الجنوبيين.
ويبدو أن الحادثة الأخيرة قد تعيد إحياء النقاش حول سياسة الرياض في المنطقة، خاصة في ظل الضغوط الشعبية والدولية على المملكة لتحسين الوضع الأمني في حضرموت وفتح المجال لقوات محلية ذات ارتباطات وطنية، وهو ما قد يكون أكثر قبولًا لدى أبناء المحافظة.
هل يعيد الحادث الحسابات السعودية؟
إن حادثة مقتل الضباط السعوديين في سيئون قد تكون نقطة تحول في التعامل السعودي مع ملف حضرموت إذ من غير المستبعد أن تدفع هذه الحادثة الرياض إلى إعادة تقييم موقفها، خاصة في ضوء تصاعد القلق الجنوبي بشأن دور قوات المنطقة العسكرية الأولى.
قد تجد الرياض نفسها مجبرة على تعديل سياستها، وقد تفضي الحادثة إلى قبول مطالب أبناء حضرموت بتغيير القوات المنتشرة في المنطقة لصالح قوات محلية أكثر قدرة على مواجهة التحديات الأمنية، ولكن تبقى هذه الخطوة مشروطة بحسابات سياسية دقيقة تتعلق بالتوازنات العسكرية والتحالفات الإقليمية التي تحكم العلاقات السعودية مع مختلف الأطراف في اليمن.
من دون شك، ستكون الأيام المقبلة محورية في تحديد المسار الذي ستتخذه الرياض في معالجة ملف حضرموت، وما إذا كانت ستستجيب لمطالب القوى الجنوبية، أو ستستمر في موقفها الحالي الذي يفضل بقاء قوات المنطقة العسكرية الأولى.