يواجه العالم أزمة جديدة تهدد استقرار واحد من أهم الممرات البحرية على الصعيد الدولي، حيث كشفت تقارير حديثة من مجلات مرموقة، مثل فورين بوليسي ووول ستريت جورنال، عن اتهامات موجهة لروسيا بدعم جماعة الحوثي في اليمن، عبر تزويدهم ببيانات استهداف دقيقة للسفن في البحر الأحمر.
وتعتبر هذه المعلومات صادمة، حيث تكشف عن تجاوز خطير لما يعتبر "خطوطاً حمراء" تحكم العلاقات الدولية وأساسيات القانون البحري الذي يضمن حرية وأمان حركة السفن التجارية عبر الطرق الملاحية الدولية.
وقد أثار هذا التحرك الروسي استنكاراً واسعاً وتخوفات من تداعياته على حركة الشحن العالمية وعلى ميزان الأمن البحري في منطقة البحر الأحمر وما يتصل بها من ممرات حيوية كقناة السويس.
ونشرت فورين بوليسي تقريراً أشارت فيه إلى أن روسيا والصين قد استفادتا من الهجمات الحوثية على الشحن البحري الدولي في البحر الأحمر، حيث أن السفن التابعة لهاتين الدولتين لم تتعرض لاستهداف، مما يثير شكوكاً بوجود تنسيق خفي.
لكن ما أثار المخاوف أكثر هو ما ذكرته وول ستريت جورنال حول دعم روسي مباشر للحوثيين عبر تزويدهم ببيانات الاستهداف، مما قد يضع روسيا في موقف المتهم بخرق القوانين الدولية ذات الصلة بالأمن البحري.
وتزداد المخاوف بالنظر إلى أن تزويد روسيا للحوثيين بهذه المعلومات الدقيقة يرفع من كفاءة وفعالية الهجمات التي تشنها الجماعة، ويُعطيها قدرة غير مسبوقة على تهديد أمن البحر الأحمر، وهو شريان رئيسي للتجارة العالمية حيث تمر من خلاله نسبة كبيرة من شحنات النفط والبضائع نحو أوروبا وأمريكا.
وأشار التقرير إلى أن هذا النوع من التعاون ينذر بتغيير كبير في قواعد اللعبة البحرية، حيث قد يؤدي إلى زيادة الانقسامات الدولية ويفتح الباب أمام تكرار مثل هذا النموذج بين قوى دولية ووكلاء إقليميين في مناطق بحرية أخرى.
دوافع روسيا:
يفتح الدعم الروسي للحوثيين باب التساؤلات حول الأهداف الاستراتيجية لموسكو في هذه المنطقة الحساسة. تعيش روسيا منذ سنوات صراعاً مع الغرب على النفوذ الجيوسياسي، وقد طالت هذه المواجهات مناطق عديدة، مثل أوكرانيا وسوريا وليبيا.
ويمثل دعم روسيا للحوثيين في تنفيذ عمليات تهدد السفن الغربية في البحر الأحمر امتداداً لهذا الصراع، حيث يتيح لموسكو توجيه رسالة قوية للولايات المتحدة وحلفائها بأن لها القدرة على تهديد مصالحهم في كل مكان.
بالإضافة إلى ذلك، تسعى روسيا إلى تعزيز موقعها في النظام العالمي البحري، إذ أن استراتيجيتها على مدى العقد الماضي أظهرت رغبتها في لعب دور مباشر ومؤثر على الممرات المائية العالمية.
وتعتبر منطقة البحر الأحمر إحدى المحاور الأساسية لحركة التجارة، وهي قريبة من مصالح الدول الغربية الحيوية في الخليج العربي وشمال أفريقيا، ومن خلال دعم الحوثيين، تهدف موسكو إلى تأمين تأثيرها في المنطقة، وتأكيد قدرتها على تهديد طرق الشحن الدولية كلما اقتضت مصالحها ذلك.
تحليل قانوني ودبلوماسي:
إن القانون الدولي البحري ينص بوضوح على حرية الملاحة وحقوق السفن التجارية في المرور بسلام عبر المياه الدولية، بما فيها المضائق والممرات الرئيسية.
ويمثل التدخل الروسي في دعم استهداف السفن في البحر الأحمر انتهاكاً صارخاً لهذه الحقوق، حيث إن تقديم دولة كبرى، وعضو دائم في مجلس الأمن الدولي، معلومات عسكرية لجماعة مسلحة يُعتبر سابقة خطيرة قد تقوض أسس القانون البحري الدولي.
ويخشى المراقبون من أن هذه الخطوة قد تفتح الباب أمام قوى دولية أخرى لدعم جماعات مسلحة في مناطق أخرى، مما قد يؤدي إلى فوضى بحرية ويقوض قواعد النظام الدولي التي تحمي سلامة الملاحة البحرية، إذ يمكن لدول أخرى، كإيران أو الصين، أن تحذو حذو روسيا في حال لم يواجه هذا التجاوز بردود دولية صارمة، مما سيجعل السفن التجارية عُرضة للاستهداف في مناطق مختلفة من العالم، سواء في بحر الصين الجنوبي أو شرق البحر المتوسط.
ويحذر دبلوماسيون غربيون من أن التغاضي عن هذا السلوك الروسي قد يعزز من مفهوم التعامل مع الجماعات المسلحة كأدوات لتحقيق مصالح الدول الكبرى، مما يعني أن مستقبل النظام البحري العالمي قد يصبح في خطر إذا انتقلت الصراعات من الأرض إلى البحار بشكل أكثر علنية.
أبعاد أمنية ودور التكنولوجيا الروسية:
نقلت فورين بوليسي عن دنكان بوتس، نائب أميرال متقاعد في البحرية الملكية البريطانية، أن منح الحوثيين بيانات استهداف دقيقة يعكس مستوى عالياً من التعقيد والتعاون الاستخباراتي بين روسيا والحوثيين، فالتكنولوجيا الروسية المتطورة في مجالات الاستهداف والرصد تجعل من هذا التعاون تهديداً نوعياً للأمن البحري، إذ لم تكتفِ روسيا بتزويد الحوثيين بأسلحة أو تقنيات تقليدية، بل وفرت لهم معلومات نوعية تعزز قدراتهم الهجومية بشكل مباشر.
من ناحية أخرى، كشفت شركة ديسربتيڤ إندستريز البريطانية، المتخصصة في تحليل المخاطر الاستخباراتية، أن الأنشطة الروسية في اليمن تزايدت خلال السنوات الأخيرة، وأن روسيا نشرت أفراداً وخبراء عسكريين على الأرض لتقديم الدعم الفني واللوجستي للحوثيين، مما يشير إلى مستوى غير مسبوق من التعاون الميداني، كما حذرت الشركة من أن هذا الدعم قد يمتد في المستقبل ليشمل أنظمة تسليح نوعية أخرى قد تزيد من تهديد الممرات البحرية للغرب، خاصة وأن روسيا تتفوق في بعض مجالات التكنولوجيا المتقدمة المتعلقة بالاستهداف العسكري والرصد البحري.
تداعيات محتملة على حركة الشحن العالمية:
يعتبر البحر الأحمر أحد أهم الطرق البحرية الدولية، حيث تمر عبره شحنات النفط القادمة من الخليج نحو أوروبا وأمريكا، بالإضافة إلى الشحنات التجارية التي تربط الأسواق الآسيوية بالغرب عبر قناة السويس، وإن تعرضت هذه السفن لمزيد من الهجمات، فقد تدفع شركات الشحن الكبرى إلى البحث عن طرق بديلة، مما سيؤدي إلى ارتفاع تكلفة النقل وتزايد المخاطر المالية على هذه الشركات، ويؤدي إلى أزمات في سلاسل التوريد العالمية.
وقد يدفع هذا التهديد الخطير شركات التأمين إلى فرض رسوم تأمين إضافية على السفن المارة عبر البحر الأحمر، مما سيؤثر على اقتصاديات دول عديدة تعتمد على هذه التجارة.
ومن ناحية أخرى، يمكن أن يؤثر ذلك على أسعار السلع والبضائع في الأسواق العالمية، إذ أن تكلفة النقل البحري ستنعكس بشكل مباشر على تكلفة المنتجات النهائية التي تصل إلى المستهلكين.
وفي حال اضطرت شركات الشحن إلى تجنب البحر الأحمر كلياً، قد تكون البدائل غير فعالة ومكلفة للغاية، مثل اللجوء إلى طريق رأس الرجاء الصالح، مما يعني استغراق وقت أطول للوصول إلى أوروبا وأمريكا الشمالية، وتزايد تكاليف الشحن، وهذا يعني أن الكثير من الدول، خاصة الأوروبية، قد تواجه أزمات في توفير السلع، مما سيؤدي إلى ارتفاع أسعار الطاقة والبضائع الأخرى، ويضع ضغوطاً اقتصادية كبيرة على الأسواق العالمية.
إن الدعم الروسي للحوثيين في استهداف السفن التجارية يمثل تصعيداً خطيراً يتجاوز الحدود التقليدية للصراعات، ويهدد بنقل المواجهات السياسية والعسكرية إلى الممرات المائية الدولية.
ورغم أن المجتمع الدولي لم يواجه بعدُ هذه الأزمة بشكل جاد، فإن استمرار هذا السلوك قد يؤدي إلى تداعيات خطيرة على أمن الملاحة والتجارة العالمية، وقد يضع هذا التصعيد القوانين البحرية الدولية على المحك، ويتطلب رداً دولياً قوياً لمنع تكرار مثل هذه التدخلات في مناطق بحرية أخرى، وضمان الحفاظ على النظام الدولي البحري الذي يعتمد عليه الاقتصاد العالمي بشكل جوهري.