في خضم التحديات الجيوسياسية التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط والقرن الأفريقي، سلط الباحث الأمريكي مايكل روبن، الضوء في مقال تحليلي نشرته مجلة "ذا ناشيونال سيكيورتي جورنال"، على قضية تجاهل الولايات المتحدة لتطلعات شعبي جنوب اليمن وأرض الصومال في استعادة استقلالهما، حيث اعتبر روبن أن استمرار تجاهل وزارة الخارجية الأمريكية لهذه الطموحات يشكل ضعفًا في السياسة الخارجية الأمريكية، ويضر بمصالح الأمن القومي الأمريكي في واحدة من أكثر المناطق حساسية واستراتيجية في العالم.
مخاوف أمريكية قديمة وتأثيرها على السياسة الخارجية
يرى روبن أن مخاوف الولايات المتحدة من دعم مطالب استقلال جنوب اليمن وأرض الصومال ترتكز على قلق من أن تشجيع انفصال هاتين الدولتين قد يُحفز حركات انفصالية مشابهة في دول عديدة، بدءًا من نيجيريا وإثيوبيا وصولًا إلى الكونغو، وحتى في روسيا والصين هذا القلق من تفكك الدول الكبرى وتوسع النزعات الانفصالية هو ما يدفع الخارجية الأمريكية لتجنب دعم مطالب جنوب اليمن وأرض الصومال رغم تباين حالتهما عن الانفصال التقليدي.
لكن روبن يطرح تساؤلًا حول مدى وجاهة هذا القلق، ويؤكد أن هناك فرقًا بين الدول التي كانت مستقلة قبل أن تدخل في وحدة اندماجية مع دول مجاورة، وبين الحركات الانفصالية داخل دول لم تكن تتبنى مفهوم "الدولة المستقلة" في السابق.
وهنا يتضح أن الخارجية الأمريكية تتجاهل هذا الفرق الأساسي الذي يجعل من تجربة جنوب اليمن وأرض الصومال حالة استثنائية مختلفة عن معظم حالات الانفصال الحديثة، حيث كان لكل من جنوب اليمن وأرض الصومال سيادة واعتراف دولي قبل الدخول في وحدات اندماجية لم يكتب لها النجاح.
تجارب تاريخية عالمية في "فك الارتباط"
وفي سبيل تدعيم حجته، يستعرض روبن في مقاله تجارب تاريخية لدول توحدت ثم فشلت في هذا الاتحاد، فاختارت العودة إلى الاستقلال الكامل عبر ما يُعرف بمفهوم "فك الارتباط".
ويرى روبن أن هذه الحالات ليست نادرة، بل تُظهر نماذج واضحة لدول وجدت أن التراجع عن الوحدة أفضل من استمرار اتحادها، خاصة حينما كانت الخلافات العميقة في الإدارة والهوية الوطنية عاملاً رئيسيًا أدى إلى فشل الوحدة. ومن أبرز هذه التجارب:
-
الجمهورية العربية المتحدة (1958-1961): شهدت هذه الوحدة بين مصر وسوريا تآزرًا قوميًّا نابعًا من الدعم الجماهيري للرئيس المصري جمال عبدالناصر بعد تأميم قناة السويس، إلا أن تجربة الاتحاد لم تدم طويلاً، إذ انتهت بعد ثلاث سنوات فقط بانقلاب في سوريا، أعادها إلى دولة مستقلة.
-
الاتحاد العربي الهاشمي بين العراق والأردن (1958): جاء كرد فعل مباشر على اتحاد مصر وسوريا، لكن هذه الوحدة الاندماجية لم تصمد طويلاً، وانتهت بانقلاب الجيش العراقي على النظام الملكي في البلاد.
-
الاتحاد بين إثيوبيا وإريتريا: دعمت الولايات المتحدة هذا الاتحاد في خمسينيات القرن الماضي، ورغم الدعم الأمريكي، سرعان ما تعمقت الخلافات، مما قاد إريتريا إلى استعادة استقلالها عام 1991 بدعم دولي، وبمباركة من الولايات المتحدة نفسها.
-
كونفدرالية سنغابيا بين غامبيا والسنغال (1981-1989): سعت الدولتان إلى توحيد الموارد والاقتصاد عبر مشروع كونفدرالي، إلا أن تلك التجربة فشلت بعد فترة قصيرة، ما دفع غامبيا للانسحاب والعودة إلى وضعها كدولة مستقلة.
تشير هذه الأمثلة إلى نماذج تاريخية واضحة تُبرز كيف يمكن لفشل الاتحاد أن يؤدي إلى عودة الاستقلال بصورة سلمية ومعترف بها دوليًا، مما يُضعف الحجة التي تعتمدها الخارجية الأمريكية ضد استقلال جنوب اليمن وأرض الصومال، وفقًا لروبن.
موقف الولايات المتحدة من استقلال جنوب اليمن وأرض الصومال
يمتلك جنوب اليمن وأرض الصومال تاريخًا واضحًا كدولتين مستقلتين، إذ حصلت أرض الصومال على اعتراف الولايات المتحدة باستقلالها في عام 1960، بينما اعترفت واشنطن بدولة جنوب اليمن رسميًا في عام 1967.
ومع ذلك، بعد دخول كلا الدولتين في وحدات اندماجية مع جيرانهما، لم تلق تلك الوحدات النجاح، بل تسببت في تدهور الأوضاع السياسية والاقتصادية، ما قاد شعبي الدولتين للمطالبة بالعودة إلى وضعهما السابق كدولتين مستقلتين.
يرى روبن أن امتناع الولايات المتحدة عن دعم هذه المطالب هو نهج يفتقر للتماسك، بل ويتناقض مع تاريخها الدبلوماسي في التعامل مع "فك الارتباط" كخيار استراتيجي في حالات فشل الاتحاد. إذ يشير روبن إلى أن الخارجية الأمريكية باركت تجربة "فك الارتباط" عدة مرات من قبل، وبنت علاقات استراتيجية مع الدول التي استقلت حديثًا بعد الاتحاد. ولكن بالنسبة لجنوب اليمن وأرض الصومال، تُظهر الخارجية الأمريكية ترددًا غير مبرر، رغم أن التاريخ الدبلوماسي الأمريكي يتضمن سوابق واضحة في دعم دول استعادت استقلالها بعد تجربة اتحاد فاشلة.
التحديات الراهنة وأهمية الاعتراف الدولي بجنوب اليمن وأرض الصومال
يشير روبن إلى أن تجاهل الولايات المتحدة لمطالب شعبي جنوب اليمن وأرض الصومال يعزز الأزمات الإقليمية ويخدم مصالح الجماعات المتطرفة ويُتيح لإيران والصين وتركيا فرصًا استراتيجية لتوسيع نفوذها في مناطق مضطربة، فالحكومة الصومالية التي تدعمها واشنطن تُعدّ من بين أكثر حكومات العالم فسادًا، وقد مالت إلى التعاون مع الصين وتركيا في مقابل تحقيق مكاسب اقتصادية فورية على حساب المصالح الوطنية طويلة الأجل، بينما تمكنت أرض الصومال من بناء دولة ديمقراطية مستقرة، وتحالفات إقليمية ودولية متينة، وتثبت قدرتها على حفظ الأمن في المنطقة ومكافحة الإرهاب والقرصنة.
وعلى صعيد اليمن، أصبح الحوثيون، المدعومون من إيران، يسيطرون على الشمال، في حين يظل المجلس الانتقالي الجنوبي القوة الوحيدة التي تمارس حكماً فعالاً ومستقراً في المناطق الجنوبية. ويعتبر روبن أن جنوب اليمن يُعدّ اليوم المنطقة الآمنة الوحيدة في البلاد، حيث يتولى الحكم مجلس انتقالي مدعوم شعبيًا يتمتع بالاستقرار الأمني والسياسي، مما يوفر للولايات المتحدة فرصة هامة لتعزيز نفوذها في هذه المنطقة الاستراتيجية.
حجج روبن في أهمية الاعتراف الأمريكي بجنوب اليمن وأرض الصومال
يرى روبن أن الاعتراف الأمريكي باستقلال جنوب اليمن وأرض الصومال من شأنه أن يحقق مكاسب استراتيجية وأمنية للولايات المتحدة. فالاستقرار الذي يمكن أن توفره كل من الدولتين في منطقة البحر الأحمر وخليج عدن سيعزز من أمن الملاحة الدولية ويساهم في مكافحة الإرهاب ومواجهة تمدد النفوذ الإيراني.
كما أن توثيق العلاقات مع حكومات ديمقراطية مستقرة، مثل أرض الصومال، سيؤدي إلى دعم أهداف الولايات المتحدة في بناء تحالفات إقليمية قوية، تكون عونًا لها في حفظ استقرار المنطقة.
كما يؤكد روبن أن على الولايات المتحدة التخلي عن قلقها من دعم مطالب الاستقلال في جنوب اليمن وأرض الصومال، ذلك لأن هذه المطالب ليست نزعات انفصالية حديثة، بل رغبة شعبية مشروعة لإعادة دولتيهما اللتين كانت لهما حدود وسيادة معترف بها سابقًا.
دعوة إلى إعادة النظر في السياسة الخارجية الأمريكية
يختتم روبن مقاله بدعوة واضحة لإعادة النظر في السياسة الخارجية الأمريكية تجاه جنوب اليمن وأرض الصومال، مشيرًا إلى أن هناك حاجة ماسّة لتبني موقف يتماشى مع مصالح الأمن القومي الأمريكي ويعزز الاستقرار الإقليمي.
وبرأيه، فإن الاعتراف باستقلال جنوب اليمن وأرض الصومال قد يكون فرصة تاريخية للولايات المتحدة لاستعادة دورها الريادي في منطقة ذات أهمية استراتيجية بالغة، ولتأمين مصالحها البحرية والاقتصادية، والحد من التمدد الإيراني والصيني، بما يخدم الحرية الاقتصادية والأمن العالمي.