آخر تحديث :السبت - 21 سبتمبر 2024 - 04:19 ص

منوعات


'حياة الماعز' رائعة سينمائية تعكس معالجة الفن للمعضلات الإنسانية

الإثنين - 26 أغسطس 2024 - 10:30 م بتوقيت عدن

'حياة الماعز' رائعة سينمائية تعكس معالجة الفن للمعضلات الإنسانية

العين الثالثة/ رحمن خضير عباس

عام 2008 صدرت للكاتب الهندي بنيامين رواية بهذا الاسم "حياة الماعز" كتبها باللغة الماليالامية، وهي واحدة من اللغات المحلية في الهند، والرواية كما يشير الكاتب مستوحاة من أحداث حقيقية، وقد تُرجمت إلى العربية بعنوان "أيام الماعز" بواسطة الأستاذ سهيل الوافي، والذي يبدو أنه ترجمها عن الإنكليزية، لذلك فلا يمكن التعويل على روح النص الذي انتقل من ترجمة إلى أخرى ناهيك عن أن الكاتب بنيامين قد استلّ الرواية من خلال ما رواه بطلها "نجيب" وهو شخص شبه أمي من جنوب الهند تعرّض لابتزاز واحتيال في المملكة السعودية، حينما ذهب للعمل هناك، لذا فلا يمكن التعويل الجدي على طبيعة المتن السردي من الناحية الفنية، أو ما يحمله من رموز وأفكار، أو من حيث الدقة في سيرورة الأحداث وتحولاتها، وذلك بفعل الترجمة المركبة التي تبتعد عن النص الأصلي، وربما عن تفاصيله لأن الضحية "نجيب محمد" قد انتهى من تجربة العمل القسري عام 1995، وكُتبت الرواية عن التجربة بعدها بثلاثة عشر سنة، ولذا فإن الكاتب الهندي بنيامين قد منح لنفسه الحرية في التخيّل والحذف والإضافة – حسب اعتقادي - ولكن هذا لا ينفي أو يقلل من شأن صدقية التعسف والظلم في نظام الكفالة المعمول به في أغلب دول الخليج، وليس السعودية وحدها، حيث يجعل من العمالة الأجنبية أشبه بنظام العبودية، لأن الكفيل يمتلك الحق القانوني والعرفي لاستغلال الوافد والحط من كرامته.

ويبدو أن الروائي متمكن في الشد السردي من خلال حبكة متقنة متطورة، تمتلك شروط الهيمنة على فضول القارئ الذي يبقى مشدودا لمسلسل الأحداث، من خلال الفصول القصيرة والمتلاحقة والتي تتدافع لملاحقة النهايات، وبذلك تستنهض الفضول والرغبة بالتشبث بالكلمات والتماهي معها. ولكي لا يجعل نهاية الرواية غايةً للقارئ فقد استهل بها فصوله الأولى من خلال المجندين إلى العمل "نجيب وحميد" اللذين ينتظران التسفير إلى بلدهما الهند، أو العودة القسرية إلى الكفيل الذي يتحكم بمصير الوافدين، طردا أو امتلاكا.

يصل نجيب وصديقه حكيم إلى مطار الرياض، وليكن التركيز على "نجيب" بوصفه الشخصية المحورية الذي تدور حوله الأحداث، فهذا الشاب الباحث عن تحسين وضعه العائلي، والذي باع كل شيء من أجل الحصول على تأشيرة العمل في السعودية، وبعد وصولهما إلى مطار الرياض، لم يجدا الكفيل بانتظارهما كما كان متفقا، ولأنهما لا يعرفان سوى لغتهما المحلية، فقد أصبحا في حالة ضياع، وفجأة يأتي رجل ذو ملامح بدوية لحدسه بأن كفيلهما غائب، فينتحل صفة الكفيل، ويطلب منهما الركوب في سيارته القديمة، ليجدا نفسيهما في عمق الصحراء، ليشتغلا كرعاة للماعز والأغنام في مزرعتين متباعدتين، ومن هنا تبدأ رحلة الألم والمعاناة؛ لثلاث سنوات وبعض الأشهر، تحوّل نجيب إلى عبد لكفيله الذي يسميه "الأرباب" وهي جمع رب العمل، وهكذا عاش نجيب مثل أي عنزة، ينام على الرمل، ويأكل الخبز فقط، ويقوم بأعمال شاقة كل يوم من الخامسة صباحا حتى العاشرة ليلا، في رعي الأغنام والماعز والجمال، ثم القيام بإطعام جميع المواشي وحمل الماء والبرسيم، وتوليد النعاج والماعز والعناية بصغارها، ثم حلبها وحراستها على مدار اليوم، وبنزرٍ يسير من كسرات الخبز وبعض الحليب. يضاف إلى ذلك العقوبات القاسية والضرب المبرح لأي سبب، والتهديد بالقتل دون رأفة أو رحمة، ناهيك عن الانفصال الكلي عن العالم، فليس لديه الحق أن يتصل برفيق رحلته حكيم الذي لا يبعد عن المزرعة التي يشتغل فيها إلا قليلا، ومحرم عليه الاتصال بالعمال الذين يجلبون الماء والتبن والشعير.

وقد وصفت الرواية حياة الصحراء في قسوتها ورقتها، وفي لفح حرارة الشمس أو غروبها وكأنها تنغمر في الرمل، كما تحدثت عن لهيب الحر، وأوجاع القرّ، إضافة إلى الأمطار التي تغير وجه الصحراء، وتُنبت الكلأ، كما تحدثت عن ولادات الحملان وإخصاء ذكورها بطريقة تخلو من الرحمة، كما تحدث عن المشاعر التي تولدت مع الماعز الذي أبدى مشاعر أكثر إنسانية من البشر.

أما رحلة الهروب فكانت من أحفل الفصول إثارة، ولاسيما أن نجيب وإبراهيم قادري ورفيقه حميد، في رحلة الموت والحياة، وما تخلل رحلة الهرب من مخاطر الموت عطشا أو ضياعا وبعد ثلاثة أيام من الجهود اليائسة وفقدانهم لحكيم الذي دفنته الكثبان الزاحفة، يصلان إلى واحة صغيرة بدلالة السحالى التي تعيش قرب الماء، وهناك يشعر نجيب بأنه تخلص من براثن الرمال، ولكن إبراهيم قادري اختفى فجأة، وهو الذي أنقذ نجيب في رحلة العودة عدة مرات.



لقد كانت الرواية تتأرجح بين الواقع والخيال، ففي بعض جوانبها تبرز ظواهر شبه إسطورية غير قابلة للتصديق، ومنها حشد الأفاعي التي تتلوى في الصحراء وتسير على أجسادهم دون لدغها، والبقاء على قيد الحياة دون ماء لثلاثة أيام أثناء الهروب في عمق الصحراء، وفزع الكفيل من المطر، مع أن البدو يفرحون بالمطر، لأنه يساهم في وفرة الكلأ.

بعد صدور هذه الرواية بستة عشر عاما، وتحديدا في مارس/آذار 2024 قامت شركة نتفليكس بإنتاج فيلم سينمائي، يعتمد على تلك الرواية في تفاصيلها من إخراج بليسي توماس، وفي البداية استغرق الفيلم في تجسيد الحياة في قرية هندية، حيث الأنهار ووفرة المطر، واللقطات الحميمية بين نجيب وبين زوجته والتي تتعمد بعمق المياه العذبة، وكأنه يقارن بينها وبين شظف العيش في الصحراء يشذ عنها في رسم صور ومشاهد فنية للحياة في جنوب الهند، وفرة الماء والمطر والخضرة اليانعة، وبساطة حياة الغواصين الذين يستخرجون رمل قاع الأنهار لبيعه، والعيش من خلاله، ورغم شحة العمل وقلة ذات اليد، ولكنّ نجيب بطل الفيلم يعيش في جنة من الشجر والعشب، والطبيعة المعطاء بجمالها، ولكن يبقى المال حاجزا لترميم خصاص العيش، لذا فقد كانت الرحلة إلى السعودية أو الخليج لردم هذه الهوّة، واكتساب بعض مهارات. ولكن هذه الآمال انطفأت بعد أن تأخر الكفيل لسبب لم يذكره الفيلم، وأصبح الوافدان "نجيب وحكيم" لقمة سائغة لجشع شخص غير معروف، تقمّص دور الكفيل، وبما أنهما لا يعرفان اللغة فقد استغل غفلتهما، وأخذ جوازاتهما، لنقلهما في سيارته "البيك آب" في قلب الصحراء للعمل في مزرعته. ومن هنا تبدأ رحلة المعاناة التي جسدها وأبدع فيها الممثل الهندي يريفيراج سوكينيران والذي استطاع أن ينقل لنا جحيم معاناته في تلك المزرعة، حتى أنه وجد في المواشي من أغنام وماعز وجمال الكثير من لمسات الدفء الإنساني والتي لم يشهدها مع الكفيل.

ولعل مشهد النسور وهي تنهش جثة العامل الهندي الهارب من أكثر المشاهد رعبا، وقد أظهرت بلغة سينمائية حافلة بلاغة المجاز السينمائي القائم على دقة التصوير واختيار زواياه وبؤرته، من خلال عملية نهش النسور للجثة المطمورة في الرمل، وهذا المشهد غير مذكور في الرواية، مما يعكس لنا اتساع مخيلة المخرج وكاتب السيناريو، اللذين أضافا أبعادا أخرى لشراسة الطبيعة التي تحيط ببطل الفيلم نجيب.

تأسست بوادر الخلاص بمجيء الصومالي إبراهيم قادري الذي اتفق مع نجيب وحكيم على الهروب من المزرعة، مستغلين مناسبة الزواج لأقارب الكفيل الذي سيغادر إلى مكان بعيد، لذلك عليهم إنجاز هروبهم الجماعي في أسرع ما يمكن، ولكن نجيب لم ينس أن يطعم المواشي جميعا في لحظة وداع تشعر أن الحيوانات تستشعر المودة أكثر من البشر. لذلك بدأت خطواتهم المتعثرة والمتعبة وسط هذا البحر المترامي من الرمل وكثبانه، وكل ما يحيط به من مجهول، كانت زوادتهم وسلاحهم هو التوق إلى الانعتاق، والوصول إلى الحرية. ورغم أن الطرق غير سالكة وغير واضحة المعالم، ولكن عيونهم المتهالكة تستدل بضوء القمر وما تبقى من شموع الأمل في مشهد تصويري رائع للصحراء بطيف ألوانها وهي تفرش جسدها للنجوم المتلألئة، لتعكس ظلالها على الأجساد المتوسلة والمنهكة.

كانت الكاميرا تتفحص الألم في لقطات مقرَّبة، فتبدو الشفاه التي تيبست من العطش، والوجوه التي لسعتها الشمس، فتآكل الجلد وانطفأت العيون الذابلة من لفح سياط الريح، وجمر الرمل الذي جعل أقدامهم المُتْعَبة تهترئ وتتقيّح، وهياكل أجسادهم تتهاوى أمام العواصف التي تُشبه أمواجا عملاقة في محيط تعرّض لتسونامي.



لقد كانت الكاميرة تسرد علينا كل الدفقات واللهاث والدعاء اليائس الذي يختفي تحت إيحاء الأصوات التي تملأ فضاءهم وتستحث خطواتهم على الصمود. ولوحات التصوير الذي أظهر السراب وكأنه جنات من الماء والخضرة، ولكن العاصفة الرملية تبتلع الشاب حكيم الذي خانته قواه، وأصبح الكثيب العملاق مثواه الأخير.

لقد داعب المخرج بحرفية معنى القسوة والرقة والظلم والتسامح، فنحن إزاء إبراهيم القادري الذي كان يشحن رفيقه نجيب بالأمل، يحمله على ظهره حينما يتهاوى، ويداوي تقيّح باطن قدميه بالرمل، لقد كان صوته واثقا، مشبّعا بالأمل، وحينما شهد سحلية تدب على الرمل، استبشر خيرا، لأن السحالى تعيش قرب الماء، وفعلا صدق حدسه. ورغم عطشه وجوعه ومتاعب الطريق، ولكنه امتلك رباط جأش كبيرة، فلم يدع نجيب أن يعبّ من ماء الغدير، وإنما قطّر في فمه الماء تقطيرا.

حينما استفاق نجيب من غفوته في تلك الواحة الصغيرة، لم يجد رفيق دربه إبراهيم قادري، مما جعل أفكاره الملوّثة تظن بأن ذلك الشخص لم يكن سوى ملاك الخلاص، ولكنّه تخلص من هذا الوهم حينما تمعن بصور الوافدين المطلوبين لكفيلهم، فقد وجد صورته هناك بطلعته البهية وبعينيه اللتين لا تعرفان اليأس، لقد استطاع الفيلم أن يستقطب ملايين المشاهدين، لا لمضمونه فقط، وإنما لما يتمتع به من إمكانات فنية وإبداعية، ولعله سيحصد الجوائز العالمية.

ولكنه أثار موجة من الغضب في بعض بلدان الخليج ولاسيما المملكة السعودية التي وجدت فيه إساءة إلى مجتمعها، من خلال تضخيم صفات الشراسة والقسوة واستعباد الآخر لدى الكفيل السعودي، والذي يصل إلى حالة شبيهة بالرق حسب وجهة نظر البعض. ولا أعتقد بأن الغضب بحد ذاته سيغيّر الحقائق على الأرض، ومنها قانون الكفالة الذي تمّ تفصيله على قياس الكفيل ومصالحه، دون الأخذ بعين الاعتبار حقوق العمّال الوافدين. ولذلك فإن الغضب لا يفي بالغرض، وإنما مراجعة النفس بهدوء، والاحتكام للمواثيق الدولية التي تجعل القوانين والشرائع في خدمة الإنسان سواء كان خليجيا أو هنديا، ومن باب أولى القيام بتعديل هذه القوانين، وأن يمنحوا العمال الوافدين حقوقا أكثر، وتكثيف حملات التوعية في المدارس وعبر وسائل الإعلام المتعددة، على احترام العمال الآسويين والتعامل معهم بمبدأ المساواة في الخَلْق والإنسانية، مشفوعة بتغيير قوانين الكفالة وجعلها تحت طائلة القانون الذي يحاسب رب العمل أو العامل أو ينصفهما تبعا لمجريات القوانين والمواثيق الدولية.

ثمة معادلة مهمة في الحياة تتمثل في أن الفن بشكل عام والسينما بشكل خاص تساهم في معالجة المعضلات الإنسانية التي تعجز السياسة عن حلّها، لذلك ففيلم "حياة الماعز" ما هو إلا حجرٌ في مياهنا الراكدة، لعلنا نستفيق ونتعلم.

شاهد أيضًا

حوش القات: صراع الوجود بين الخضيري وهوامير الأراضي ...

الجمعة/20/سبتمبر/2024 - 10:44 م

أثيرت خلال الايام القليلة الماضية مشكلة الصراع والتسابق المحموم للسيطرة على حوش سوق القات الكائن بالممدارة (الهناجر) بمديرية الشيخ عثمان بالعاصمة عدن


شعب الجنوب لن يُلدغ مرتين.. حان وقت الحسم! ...

الجمعة/20/سبتمبر/2024 - 08:20 م

نشرت صحيفة "عين الجنوب" تقريرًا مثيرًا بعنوان "إلى قيادة الجنوب.. شعب الجنوب ضاق به الحال"، تعيد "العين الثالثة" اعادة ت


التجييش القبلي في أبين: هل يقترب الجنوب من الهاوية؟ ...

الجمعة/20/سبتمبر/2024 - 04:10 م

كتب عبدالله سعيد القروة مقالاً بعنوان "انتبهوا.. قضية عشال ستقصم ظهر البعير" أثار فيه الكاتب قضية علي عشال الجعدني التي تتصاعد يومًا بعد يوم


من فوبيا الانفصال إلى حق تقرير المصير: الجنوب العربي يستعيد ...

الجمعة/20/سبتمبر/2024 - 02:35 م

في مقال على صفحات التواصل الاجتماعي يطرح الكاتب اليمني الشمالي الأستاذ جمال أنعم تساؤلات عميقة حول مفهوم الوحدة اليمنية، ويدعو إلى إعادة التفكير في هذ