آخر تحديث :الأحد - 09 مارس 2025 - 03:50 م

من بيروت إلى عدن.. كيف يتم وأد الدولة الوطنية العربية؟

الجمعة - 07 مارس 2025 - الساعة 01:42 م

هاني سالم مسهور
الكاتب: هاني سالم مسهور - ارشيف الكاتب


لطالما شكلت مسألة إعادة الإعمار في العالم العربي معضلة تتجاوز البعد الاقتصادي لتصل إلى جوهر الصراع حول مفهوم الدولة الوطنية.


فعلى مدار عقود، دخلت العواصم العربية في دوائر من التدمير وإعادة البناء، لكن دون القدرة على تحقيق تحول استراتيجي يخرج المنطقة من دوامة الفوضى المزمنة.


واليوم، يعيدنا المشهد السياسي إلى هذه النقطة مجددًا، العرب يهرولون لإعادة إعمار غزة، بينما تبقى بيروت وعدن رهنًا للخراب السياسي والمذهبي، وكأن الأولوية لم تعد لدولة عربية قادرة على الحياة والبقاء، بل لاستمرار تلبية مطالب تيارات الإسلام السياسي التي تتغذى على الخراب.


كان الظهور الأول لكل من الرئيس اللبناني جوزيف عون والرئيس السوري أحمد الشرع (المعروف سابقًا بأبي محمد الجولاني رئيس هيئة تحرير الشام) خلال القمة العربية الطارئة في القاهرة لحظة كاشفة لحجم التناقض العميق في العقل العربي، التفاعل الشعبي العربي مع الشخصيتين لم يكن مجرد جدل سياسي، بل كشف عن الالتباس المزمن بين نموذج الدولة الوطنية الحديثة ونموذج الدولة ذات العمق الديني المذهبي.


جوزيف عون، الذي يمثل امتدادًا لنواة الدولة القومية العروبية الحديثة، أثار ردود فعل متباينة؛ البعض رأى فيه فرصة لإعادة بناء لبنان على أسس وطنية ليبرالية بعيدًا عن الطائفية، بينما رأى آخرون أنه استمرار للنموذج العسكري الذي أنتج أنظمة سلطوية في الماضي، أما أحمد الشرع، القادم من إرث التنظيمات الجهادية، فقد بدا للبعض تجسيدًا لصعود وجه ٱخر من الإسلام السياسي كبديل عن الأنظمة التقليدية، في حين اعتبره آخرون مجرد إعادة إنتاج لحالة الفوضى المغلفة بخطاب ديني.


هذا الانقسام في التفاعل الشعبي ليس مجرد سجال حول شخصيات سياسية، بل يعكس أزمة العقل العربي في تحديد شكل الدولة الوطنية التي يريدها، فنحن أمام شعوب لا تزال عالقة بين النموذج القومي العروبي الذي تشكل في ثورات الضباط الأحرار، والنموذج الإسلامي السياسي الذي صعد بعد إخفاق الدولة القومية في تحقيق نهضة حقيقية، ما نراه في السياسة ليس سوى انعكاس لهذه الأزمة الفكرية العميقة، حيث تتنازع الهوية العربية بين إرث الدولة الدينية وإرث الدولة القومية، دون قدرة على تجاوز هذا الصراع إلى نموذج أكثر حداثة ومؤسسية.


عدن تمثل نموذجًا صارخًا لهذا التناقض، فقد كانت أول مدينة عربية تطيح بالتمدد الإيراني عندما تحررت من سيطرة الحوثيين في 2015 بدعم إماراتي، فيما اعتُبر لحظة مفصلية في الحرب اليمنية وفي المنطقة العربية، لكنها بقيت ركامًا محطمة دون إعادة إعمار، ليس بسبب غياب الموارد، وإنما بسبب الحسابات الإقليمية التي جعلت أولويتها التوازن في استرضاء تيارات الإسلام السياسي على حساب بناء الدولة الوطنية.


التعامل مع عدن بعد تحريرها كشف أن بعض القوى الإقليمية والدولية لا تريد أن تنشأ في الجنوب دولة وطنية مستقرة بامتداد قومي عروبي، تمامًا كما هو الحال في لبنان، حيث تُترك الدولة في حالة من الانهيار الدائم حتى تظل رهينة لحسابات القوى الإقليمية، القوى التي تدير المشهد اليمني وضعت مصالح حزب الإصلاح، ذراع الإخوان المسلمين، والحوثيين الموالين لإيران في معادلة تجعل من عدن منطقة معطلة، لأن أي استقرار فيها يعني صعود نموذج الدولة العروبية الحديثة، وهو النموذج الذي يتم تقويضه باستمرار لصالح الإسلام السياسي.


عندما نتحدث عن بيروت وعدن، فإننا لا نتحدث عن مجرد مدن تحتاج إلى ترميم مبانيها المدمرة، بل عن مشروع الدولة الوطنية العربية في مواجهة مشاريع الطائفية والتطرف، فمنذ عقود، كانت بيروت رمزًا لعاصمة عربية حداثية قبل أن يُغتال مشروعها لصالح مشروع "ولاية الفقيه"، بينما بقيت عدن تحاول النهوض تحت وطأة الصراع مع قوى الإسلام السياسي والقبلي والمصالح الإقليمية المتشابكة، كلا المدينتين يمكن أن تكونا نموذجًا لإعادة بناء الدولة الوطنية العربية القادرة على الصمود، بعيدًا عن استلاب الهويات الطائفية، ومع ذلك، يُهمل العرب استعادة بيروت وعدن، ليس فقط من حيث البنية التحتية، ولكن من حيث إعادة إحياء نموذج الدولة الوطنية ذاته، حيث لا يحكمها السلاح غير الشرعي، ولا تبتزها التيارات الدينية والمذهبية.


في المقابل، نرى العرب يندفعون وراء إعادة إعمار غزة دون أي مساءلة لحركة حماس، التي قررت منفردة شن هجوم 7 أكتوبر 2023، دون أي حساب لتبعاته على الفلسطينيين أنفسهم، المشهد يعيد نفسه كما حدث بعد حرب 2006 في لبنان، حيث هرع العرب لإعادة إعمار الضاحية الجنوبية، فكانت النتيجة أن حزب الله خرج أقوى مما كان عليه، ليعيد إنتاج المعركة في 2023 بأسم إسناد غزة، المفارقة أن العرب يدفعون المليارات لإعادة إعمار مناطق تسيطر عليها جماعات أيديولوجية ترفض أساسًا مشروع الدولة الوطنية، بل تسعى لإضعافه واستنزافه من الداخل، فهل إعادة الإعمار في غزة ستكون مقدمة لحل سياسي حقيقي، أم مجرد مرحلة جديدة لتمكين حماس من بناء مشروعها العسكري مرة أخرى، استعدادًا لحرب جديدة؟.


ما يحدث اليوم يعكس إشكالية أعمق في العقل العربي الذي لم يحسم خياره بعد بين الدولة الوطنية ذات العمق القومي، والدولة التي تُبنى على أساس ديني مذهبي سني أوشيعي، البعض يرى في غزة استمرارًا للمشروع الإسلامي العابر للحدود، بينما يرى في بيروت وعدن إرثًا لمفهوم الدولة العروبية الليبرالية التي تأسست عبر ثورات التحرر القومي، المشكلة أن العرب ظلوا رهائن لهذا الالتباس، فبدلًا من بناء مشروع دولة حديثة تقوم على المواطنة والمؤسسات، ظلوا يبددون ثرواتهم في صراعات أيديولوجية مفتوحة، ما بين دعم تيارات الإسلام السياسي باسم المقاومة، أو دعم أنظمة هشة تخشى مواجهة التيارات الدينية خوفًا من الانقلاب عليها.


في جوهر الأزمة، هناك رعب عربي مستمر من مواجهة الإسلام السياسي والتيارات الدينية المتشددة، فكلما اقترب العرب من بناء نموذج الدولة الوطنية الحديثة، تدخلت قوى الإسلام السياسي، سواء عبر السلاح أو عبر الخطاب، لابتزاز الحكومات والمجتمعات على حد سواء، التاريخ يؤكد أن أي مشروع عربي حداثي كان دائمًا يواجه بحرب شرسة من التيارات الإسلامية، التي ترى في الدولة الوطنية تهديدًا مباشرًا لوجودها. وحتى اليوم، لا تزال هذه الجماعات تتحكم في العقل الجمعي العربي، وتفرض نفسها كبديل عن الدولة، سواء عبر المقاومة أو عبر فرض نموذجها المجتمعي القائم على خطاب المظلومية الدائمة.


إن مأساة بيروت وعدن ليست مجرد قصة عاصمتين مدمرتين، بل هي انعكاس لأزمة الدولة الوطنية العربية التي تواجه رياح التفكيك من الداخل والخارج، فبين مشاريع الإسلام السياسي التي تستثمر في الفوضى، والقوى الإقليمية والدولية التي تجد في الدول الهشة فرصة لفرض أجنداتها، يبقى السؤال معلقًا: هل يمكن للعرب استعادة نموذج الدولة الوطنية الذي تم وأده على مدى العقود الماضية؟.


إن إعادة الإعمار ليست مجرد عملية ترميم للبنى التحتية، بل هي معركة لاستعادة مفهوم الدولة ذاته، دولة تقوم على المواطنة، لا على الولاءات الطائفية والمحاصصة، دولة تضع الاستقرار والنهضة فوق الحسابات الأيديولوجية الضيقة، أما استمرار العرب في الانجراف خلف أولويات خاطئة، فسيعني بقاء بيروت وعدن، ومعهما عواصم عربية أخرى، رهائن لمشاريع لا تؤمن أصلًا بوجود الدولة الوطنية، والسؤال الأهم: هل يستوعب العرب درس التاريخ قبل أن تضيع الفرصة الأخيرة؟.




شاهد أيضًا

تناقض أم اختلاف في الرؤى؟ تصريحات علي ناصر والزبيدي تحت المج ...

الأحد/09/مارس/2025 - 04:50 ص

في مشهد يعكس تباين الرؤى تجاه مستقبل الحوثيين في المشهد اليمني، برزت تصريحات متباينة لكلٍّ من الرئيس الأسبق لجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، علي نا


من مهد الثورة إلى معقل الصمود.. الزُبيدي يضع خارطة الطريق لل ...

الأحد/09/مارس/2025 - 03:00 ص

في زيارة حملت أبعادًا سياسية ووطنية، زار القائد عيدروس قاسم الزُبيدي، رئيس المجلس الانتقالي الجنوبي، نائب رئيس مجلس القيادة الرئاسي، محافظة الضالع، حي


الزُبيدي في الضالع.. تعزيز التلاحم الوطني ورسم ملامح المرحلة ...

الأحد/09/مارس/2025 - 02:34 ص

قام القائد عيدروس قاسم الزُبيدي، رئيس المجلس الانتقالي الجنوبي، نائب رئيس مجلس القيادة الرئاسي، اليوم السبت، بزيارة تفقدية لمحافظة الضالع. وعقد القائد


وقود الاستقرار الكهربائي في عدن.. شحنات جديدة لتعزيز التوليد ...

السبت/08/مارس/2025 - 03:40 ص

أعلنت المؤسسة العامة لكهرباء عدن، اليوم السبت، وصول سفينة تحمل 11,500 طن من مادة الديزل إلى ميناء الزيت بمديرية البريقة. وأفادت مؤسسة كهرباء عدن بأنه