في فضيحة مالية جديدة تعصف بالثقة في المؤسسات الحكومية، أظهرت وثيقة رسمية مسربة عن وزارة المالية في عدن تجاوزات كبيرة في إدارة قرض كويتي بقيمة 60 مليون دولار كان مخصصًا لتجهيز 12 كلية مجتمع في مختلف المناطق اليمنية، وقد تم الكشف عن هذه التجاوزات في وقت حساس، بعد مرور عشر سنوات على توقيع اتفاقية القرض، دون أن يتم تنفيذ المشروع بالشكل المأمول، مما أثار موجة من التساؤلات حول كيفية إدارة هذا القرض والتلاعب في تنفيذ مشروعات تنموية تمولها الدول المانحة.
تأخر عقد كامل: القرض الكويتي في دوامة الفساد
في عام 2014، وافق الصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية على منح قرض قيمته 60 مليون دولار لدعم مشروع تجهيز 12 كلية مجتمع في اليمن، بهدف تعزيز التعليم الفني والتدريب المهني في البلاد، وقد تم التوقيع على الاتفاقية بين الحكومة اليمنية والصندوق الكويتي في ظروف اقتصادية صعبة، حيث كانت الحكومة تأمل في أن يسهم القرض في تحسين نوعية التعليم العالي في مجال التدريب المهني، ومع مرور السنوات، أصبح المشروع من الأمثلة الصارخة على سوء إدارة القروض التنموية في اليمن، حيث تعثر على مدى عقد كامل دون أن يرى النور.
ورغم أن مشروع تجهيز الكليات كان من المفترض أن يكون خطوة محورية في تحديث التعليم الفني في اليمن، إلا أنه لم يشهد أي تقدم ملحوظ في تنفيذ خطواته الميدانية، بل على العكس، كشفت الوثائق الرسمية عن اختلالات شديدة في إدارة هذا المشروع، بما في ذلك التأخير المستمر، والإهمال في متابعة التنفيذ، والفساد الذي ألحق ضرراً بسمعة الحكومة وأدى إلى فقدان فرص تطوير البنية التعليمية في البلد.
إخلاء مسؤولية وزارة المالية: توجيه أصابع الاتهام داخل الحكومة
الوثيقة المسربة التي أصدرتها وزارة المالية في عدن تكشف عن خطوة غير مسبوقة، حيث أعلنت الوزارة عن إخلاء مسؤوليتها التامة عن المشروع، في خطوة تكشف عن التدهور الكبير في مستوى التنسيق داخل الحكومة، وفي مذكرة موجهة إلى رئيس الوزراء اليمني أحمد بن مبارك، أوضح وزير المالية سالم بن بريك أن الوزارة لا تتحمل أي مسؤولية عن القرض الكويتي ولا عن أي مناقصات مرتبطة به، وأرجع وزير المالية السبب في ذلك إلى عدم جاهزية الكليات المستهدفة لاستقبال التمويل، وهو ما يتناقض تماماً مع البيانات الحكومية السابقة التي كانت تشير إلى استعداد الكليات لاستقبال المخصصات المالية.
وأكدت وزارة المالية في المذكرة أن الظروف الاقتصادية الصعبة التي تمر بها البلاد تعيق أي محاولة لتنفيذ المشروع على أرض الواقع، محذرة من أن استكمال المناقصة الحالية دون وجود أساسات جاهزة في المؤسسات التعليمية سيؤدي إلى إهدار الأموال العامة وفشل المشروع، وتشير هذه الخطوة بوضوح إلى الأزمة التي تعيشها الحكومة اليمنية في التعامل مع القروض الخارجية، كما تعكس فقدان التنسيق بين الوزارات والأجهزة الحكومية.
التجاوزات القانونية والإدارية: إشكاليات في تنفيذ المناقصات
من جهة أخرى، أكد تقرير مجلس النواب اليمني الذي صدر في وقت سابق من هذا العام على وجود اختلالات كبيرة في الإجراءات القانونية المتعلقة بالمشروع، بحيث أشار التقرير إلى أن المناقصة التي أُعلن عنها في يناير 2023 لم تُجهز عبر شركة دراسات متخصصة كما هو معمول به في مثل هذه المشروعات الكبيرة، ولم تُعرض على اللجنة العليا للمناقصات، وهو ما يعد مخالفة صارخة للقوانين المعمول بها في مثل هذه الحالات، ما يعني أن قرار التوجه لتنفيذ المناقصة كان مخالفًا للأطر القانونية، وأدى إلى تشكيل لجنة مناقصة بقرار غير قانوني.
ويعد هذا الأمر جزءًا من سلسلة من المخالفات القانونية التي تؤكد أن الحكومة اليمنية لم تكن جادة في التعامل مع القرض الكويتي ولم تطبق المعايير اللازمة لإدارة المشاريع المالية بالشكل الذي يضمن تحقيق الأهداف المنشودة، وقد دفع ذلك بالعديد من المراقبين إلى المطالبة بفتح تحقيق شامل في كيفية إدارة هذا القرض والأسباب التي أدت إلى تعطيل المشروع طوال هذه الفترة.
المراقبون: أزمة الثقة بين الحكومة والمواطنين
في تعليقاته على الوثيقة، شدد العديد من المراقبين والخبراء الماليين على أن الفضيحة التي أفرزتها هذه الوثيقة تعكس مستوى عميقًا من التراخي والفساد في الحكومة اليمنية، مشيرين إلى أن ذلك يساهم في تآكل الثقة بين الحكومة والمواطنين، وقد اعتبر البعض أن الحكومة، من خلال تأجيل تنفيذ مشاريع ممولة من الخارج وتجاهل القوانين، تُسهم في تعطيل التنمية المستدامة في البلاد، مما يفاقم من الأزمة الاقتصادية التي يعيشها المواطنون اليمنيون.
وفي هذا السياق، أشار بعض الخبراء إلى أن هذه الوثيقة تُعد بمثابة جرس إنذار للمجتمع الدولي والمنظمات المانحة، مطالبين بضرورة إعادة النظر في الآليات التي يتم من خلالها تقديم القروض والمساعدات إلى اليمن، وأكد هؤلاء أن الحكومة بحاجة إلى إصلاحات هيكلية جذرية لتكون قادرة على استعادة ثقة المانحين، وضمان أن أموال الدعم الخارجي تُصرف بالشكل الصحيح.
النداء للإصلاحات: الشفافية والمساءلة في مقدمة الحلول
من ناحيتهم، طالب المراقبون بضرورة تطبيق مبادئ الشفافية والمساءلة في إدارة المشاريع الحكومية التي تمولها الدول المانحة، وطالبوا بإصلاحات جوهرية في طريقة إدارة المناقصات والمشاريع الحكومية، بحيث يتم الالتزام بالمعايير القانونية المعتمدة في جميع مراحل التنفيذ، ويُضمن إشراك المؤسسات الرقابية في متابعة سير هذه المشاريع.
وشددوا على أهمية إشراك المجتمع المدني في مراقبة كيفية إنفاق الأموال العامة، بالإضافة إلى تعزيز دور لجان التحقيق البرلمانية في مراجعة المشاريع المتعثرة، وأكدوا على ضرورة اتخاذ الحكومة خطوات حاسمة لمكافحة الفساد الإداري والمالي، وإصلاح الأنظمة الداخلية لمؤسسات الدولة بشكل يحقق مصالح الشعب ويعزز من عملية التنمية المستدامة.
ضرورة اتخاذ خطوات عملية لحماية المال العام
إن استمرار هذه التجاوزات والتهاون في إدارة الأموال العامة يجعل من الضروري أن تتحمل الحكومة اليمنية مسؤوليتها بشكل كامل، وأن تضع حداً للتلاعب بالموارد المالية، بما يحفظ حق المواطن في الاستفادة من المشاريع التنموية، ومع توالي الفشل في تنفيذ المشاريع التنموية المهمة، تظل أزمة الثقة تتعمق بين الحكومة والشعب، مما يجعل من الضروري اتخاذ خطوات عملية لحماية المال العام، ومعالجة الاختلالات المؤسسية التي أصبحت تشكل عبئًا إضافيًا على الوطن.